ماذا بقي من انتفاضة ايار 1968 في الذكرى الاربعين لانطلاقتها؟ ربما انتهت منذ ان انطلقت، وهي وان حققت الكثير من اهدافها تبقى ثمارها لامرئية، خصوصا ان من صناعة شبان يطمحون الى التحرر الاجتماعي، يطبون المستيحل ويرفعون شعار "المنع ممنوع" و"تغيير الحياة" الرامبوي.
يعتبر عام 1968 منعطفا تاريخيا في العالم، اتى في عقد وصف بأنه العقد الذهبي للاحلام والثقافة والمشاهير، فخلاله اشتهرت مارلين مونرو قبل موتها الغامض، ايضا لمع نجم الرئيس الاميركي جون كينيدي قبل اغتياله و"لعلعت" خطب جمال عبد الناصر وصوت احمد سعيد واصبحت لحيتي تشي غيفارا وفيدل كاسترو مثالا للثوريين... صنعت مرحلة الستينات نجومية مكرّسة في الشعر والاغراء والثورة والامكنة، نجومية حملت الكثير من الايجابيات لكن سلبيتها انها مكرسة على الجيل الجديد كأنها ايقونات مقدسة، باتت في الحاضر جزءا من الذاكرة والنوستالجيا، ربما لا يقدر الجيل الجديد أن يحذو حذوها حتى ان قدم ما هو افضل منها، ولأن كانت ستينات القرن الماضي تحتاج كتبا لـ"تقميش" يومياتها واسطورتها ومناخها الحلمي، فعام 1968 تحديدا هو الأكثر صخبا في هاتيك الأيام، فخلاله اغتيل مارتن لوثر كينغ، وروبرت كيندي، وظهرت حركات تحرر المرأة في الغرب، وبرز الزعيم الراحل ياسر عرفات على مسرح التاريخ بصفته قائدا للحركة الوطنية الفلسطينية، وركز صدام حسين بعد انقلاب البعث 1968 على كيفية الإرتقاء في سلم الحكم والوصول إلى أعلى المراكز. واستطاع تحقيق ذلك مستخدما جميع الوسائل العنيفة للتخلص من خصومه ومنافسيه وكل من يشك بعدم ولائه داخل الحزب الحاكم وخارجه. وفي فرنسا اهتز النظام الديغولي وكاد ان يسقط بعد الثورة الطلابية وشعارات "المنع ممنوع"، وكانت حرب فيتنام الاميركية بمنزلة تيار تحتي هادر اشعل الاحتجاجات الاولى في الثورة الطلابية. وفي تشيكوسلوفاكيا، ازاح "ربيع براغ" الستار الحديدي جانبا الى ان ارسلت موسكو الشيوعية جيشها لسحق المعارضة، ويبقى هذا "الربيع" في تاريخ الأمم صورة خالدة لرغبات الشعوب بالانتفاض على الاحتلال. وبات مصطلحا سائدا في اصقاع الارض، صحيح ان "الربيع" انتهى بدخول الدبـابات السـوفـيـاتـيـة واعادة احتـلال الـبـلاد بـكامـلهـا، لـكـن توالي الاحداث في التسعينات من القرن الماضي أكد ان الحرية التي دفعت براغ ثمنها غالياً عادت لتثبت وجودها وعادت تـشـيـكـيـا الى استـقـلالها بعـد انفراط عقد الاتحاد السوفياتي السابـق. لكن في انتفاضة 1968 الباريسية كانت هناك امور اخرى، فاليسار الطلابي الاوروبي ازدرى الديمقراطية الليبرالية الغربية، الى جانب اضفاء الطابع الرومانسي على الانظمة المستبدة او الشيوعية. كان الطلاب يفضلون تشي غيفارا وماو تسي تونغ على قادة بلادهم المنتخبين ديموقراطيا، كانوا يعلقون صور ماركس ولينين، ربما لأن الايديولوجيا تخفي ما هو سياسي. لم يشعروا بأزمة ضمير الا عندما وصل الكمبوديون والفيتناميون القادمون في المراكب في اواخر السبعينات من القرن الماضي، حاملين معهم روايات عن المذابح التي حصلت في بلادهم، ربما يكون الوجه الايجابي الافضل للحركة الطلابية انها اسقطت النزعة التسلطية المتبقية من الزمن النازي في المانيا الغربية (سابقا)، وفي المشرق العربي كان المقابل للانتفاضة الباريسية حرية العمل الفدائي الفلسطيني الذي كان سببا في تفكيك الدولة اللبنانية.
كان لجيل 1968 عمقه وافكاره المثالية معبرا عنها في الثقافة والسياسة، وما زال ارثه مستمرا. لقد ملأ الشبان الاجواء بهتافات حادة تطالب بالتغيير كان الهدف الانتقال الى مستقبل افضل. والسؤال ماذا بقي من الانتفاضة الطلابية، ماذا فعلت الثورة الطلابية؟ نسأل ونحن نعلم انها غيرت حياة المجتمع الفرنسي في العمق من جميع النواحي: النفسية، والثقافية، والجنسية، والتحررية، والسياسية، والفلسفية، كانت رياح الانتفاضة تهب منذ فترة على عواصم الغرب وجامعات من روما، وبرلين، ولندن، ومدريد، ولكن هذه الثورة بلغت ذروتها في باريس حتى اضطر الرئيس شارل ديغول الى الرحيل عن فرنسا مؤقتا، بعد ان عجز عن ايقاف التمرد. كانت الانتفاضة الباريسية ضد المجتمع وتقاليده العتيقة الموروثة عن القرن التاسع عشر، ضد الهيبة الابوية داخل العائلة، وهيبة ارباب العمل في المصانع، والاساتذة في المدارس. وقد عجزت الانظمة التربوية في كل البلدان المتطورة عن مواجهة مطالب كل هذا العدد الهائل من الطلبة.
انتقل الطلبة من نقد الجامعة ومناهجها الى نقد المجتمع كله، وبما ان السلطة كانت عاجزة عن اصلاح المجتمع فإنه لم يعد امام الطلاب الا الثورة عليها من اجل تغييرها، وبالطبع كانوا يحلمون بوصول اليسار الى السلطة، وبخاصة اليسار المتطرف على طريقة ماو تسي تونغ وهو شي منه وتشي غيفارا وجماعة تروتسكي التي ما زالت تخوّن الحزب الشيوعي الفرنسي لأنه لم يكن فاعلا في التحركات. الشيء الذي كان يجذب الطلاب في الماركسية، انذاك هو البعد التبشيري، كانوا يعتقدون ان المجتمع فاسد كليا وغير قابل للاصلاح، وبالتالي فلا بد من تدميره من اجل تشكيل مجتمع آخر جديد. وتدمير المجتمع لا يمكن ان يتم الا عن طريق الثورة العارمة. اعتقد زعماء الحركة الطلابية بأن النقابات العمالية هي التي ستقوم بالثورة طبقا لنبوءة وتوقعات كارل ماركس، وعلى هذا النحو وصلت حركة التمرد الى بعض الجامعات الاميركية الاخرى، ولكن بعد ان قام الطلاب في السوربون بعدة اعمال استفزازية اصطدموا برجال الشرطة وسقط العديد من الجرحى من كلا الطرفين وعندئذ قررت الشرطة اعتقال قادتهم.
غواية المثقفين
ساهم المثقفون الكبار في دعم الحركة الطلابية، فنزل الفيلسوف جان بول سارتر الى الشارع وراح يوزع المنشورات لصالح الطلاب وضد النظام. فاعتقلته الشرطة لفترة قصيرة ثم اخلت سراحه بعد ان قال لهم ديغول: "من يستطيع ان يعتقل فولتير اتركوه حرا". ثم نزل ميشيل فوكو الى الشارع ايضا، وكذلك جيل دلوز، وايفي مونتان وعشرات الفنانين والكتاب الآخرين. وبعد ثمانية اسابيع من الاضطرابات العنيفة والفوضى راحت فرنسا تلتقط انفاسها، عاد الجنرال ديغول الى البلاد. وانتهت انتفاضة 1968 كما تنتهي كل الثورات كما تنتهي الاحلام وتصطدم بالواقع، وخلفت وراءها الخيبة والحسرة لأنها لم تستطع ان تسقط النظام الحاكم، ولكنها استطاعت ان توصل زعيم الجمهورية الخامسة الى حافة الهاوية.
وكالعادة فبعد كل اضطراب يشعر الناس بالحاجة الى الرواق، وهكذا صوت الشعب الفرنسي لديغول وتياره بعد الاحداث بشكل كثيف وقوي وكانت النتجية ان سيطر الديغوليون على السلطة من جديد. لقد حيرت انتفاضة آيار 1968 كل المراقبين، ولا يزال المؤرخون حتى الان يتساءلون عن سرها!! يقول بعضهم بان فرنسا هي بلد الثورة الفرنسية وليس غريبا بالتالي ان تظهر فيها الثورات من وقت الى آخر، ويقول أخرون بأن المجتمع الفرنسي كان بحاجة الى خضة كبيرة لكي يجدد نفسه ويخرج من امتثاليته وعاداته الرتيبة المملة.
يرى احد المفكرين الذين عاشوا احداث تلك الفترة ان انتفاضة ايار 1968 كانت حديثة وعتيقة بالية في الوقت نفسه، كانت حديثة لانها ارهصت بآفاق القرن الواحد والعشرين قبل ان تحصل، وقديمة لأنها كانت لاتزال تؤمن بالشعارات الثورية على الطريق الماركسية او الماوية وما الى ذلك. لكن الفيلسوف جيل دلوز يقول لم يكن ايار 1968 فسحة للخيال بل كان جرعة للواقعية. اما بالنسبة للنظام الجامعي والحياة الثقافية فإن تأثير هذه الانتفاضة عليها كان كبيرا، فبعدها تجددت البرامج التي كانت سائدة في الجامعات الفرنسية، وظهرت تيارات فكرية جديدة وبخاصة تيار البنيوية، وسيطر رولان بارت على النقد الادبي، وجيل دولوز على الفلسفة، وكلود ليفي ستراوس على الانتربولوجيا، وبيير بورديو على علم الاجتماع، وجاك لاكان على علم النفس. وشحب بريق جان بول سارتر وبدت ماركسيته المطعمة بالوجودية مهترئة اكثر من اللزوم، والواقع ان رولان بارت كان قد خاض معركة كبيرة مع النقد التقليدي السائد في السوربون، وربح المعركة بعد ايار 1968، ووضع ميشال فوكو تعريفا للمثقف الكوني، وهو المثقف الذي يملك الحقيقة والعدالة، ونتيجة للاحداث التي شهدتها فرنسا في الستينات مات المثقف التقليدي الذي كان خادما للدولة والدين والمال. تلاشت عتبة الكتابة التي كانت عتبة مقدسة لا يخطو عليها الا القديسون او قساوسة الكتابة. وخلال العامين 1968 -1970 وضع سارتر تصورا جديدا لدور المثقف لا يختلف عن تصور فوكو وملخصه "ان المثقف محكوم عليه بالانسحاب من الافق كانسان يفكر بدل الاخرين".
والسؤال يتجدد ماذا بقي من انتفاضة 1968؟ لا يحتاج الواقع الفلسطيني الى وصف، ولا بحتاج العمل الفدائي الى تبيان، توفى ياسر عرفات وبدا كأن القضية الفلسطينة تأكل نفسها، خصوصا في ظل حمى حركة حماس والاقنعة والاغتيالات، ولا يزال العربي في مستنقع الهزائم، وقفز احمد فؤاد نجم من نجومية الأغنية النقدية الى نجومية الشاشة قبل ان يذهب في الكوما، غيفارا الذي كان مثالا للشبان الثوريين الرومانسيين بدا الكشف عن الوجه الآخر في حياته، لم يكن رومانسيا فحسب بل كان قاسيا بحق الأسرى والمواطنين، تحولت صورته قناعا للاستهلاك في العالم، وبات ماركة للقمصان والساعات وكلمة في الاغاني، لم يبق من غيفارا الا صورته، ولم يكن غيفارا الا صورة. مات ماو (تسي تونغ)، غير أنّ الأسطورة التي نُسِجَت من حوله، وأسهم هو نفسه في نسجها إلى حدّ بعيد، ما زالت قائمة. والملصقات التي تحمل صوره العملاقة ما زالت تغطّي أسوار المدينة المحرّمة، ومومياؤه، وإن طاولها الفساد، ما زالت مقصد الزائرين. ربما لم يبق من ربيع 1968 الا الذاكرة لكنه في شكل من الاشكال كانت نطقة اطلاق للتغيير الثقافي والاجتماعي والسياسي في العالم، انه العالم الذي غير العالم ربما اكثر من الانظمة الشيوعية والراسمالية. وباتت الكوكا كولا نصبا في هانوي، ولحى وكلاء الخميني في لبنان وبن لادن في السعودية اطول من لحية تشي غيفارا، وارهاب القاعدة اقوى من ثورية المنظمات اليسارية الحمراء، والصعود الى القمر اصبح رحلة في متناول من يمتلك المال المناسب، وبات ثمة شركات تبيع العقارات على سطح القمر، بعد ان الوصول اليه حلم البلدان الكبرى.
"ثورة ساركوزي"
اما في فرنسا فالعديد من أبطال 1968 انقلبوا عليها منذ فترة طويلة، والبعض منهم صاروا في مواقع مهمة، وأصبحوا أكثر "جدية" وعلى رأسهم زعيم الحركة نفسه كوهين بنديت، الإيكولوجي الذي اصبح نائبا في البرلمان الأوروبي. وخاض الرئيس الفرنسي نيكولا ساركوزي، الذي كان عمره 13عاما فقط عندما ارتفعت الحواجر في الحي اللاتيني، حملته الرئاسية التي تكللت بالفوز هذا العام ضد جيل الـ68 الذي لا تزال تتصاعد منه رائحة الرومانسية اليسارية. ماذا يعني أن يعلن ساركوزي رغبته في إحداث قطيعة مع انتفاضة أيار التي لا يزال الكثير من الفرنسيين يفخرون بها، فهو أمر يدعو للتساؤل حول ما ستكون عليه فرنسا الغد. وما الذي ستخسر فرنسا أو تربحه؟ فقد وجه ساركوزي رسالة إلى الشباب بصورة خاصة، فأطلق نداءً بإعلاء قيم العمل والانضباط في ظل ثورة مضادة. والثورة التي يرى أن المجتمع الفرنسي لابد وأن يتغلب عليها هي ثورة أيار 1968.
هل يمكن القول إن السّبب في حقد ساركوزي على "انتفاضة ايار" هو أنه يبحث لفرنسا "اليمينية" عن انتقام طال انتظاره لهزيمة ديغول، أمام الثورة الطلابية، ام انه الثورة التي يريدها بسبب فشله في الحب، لقد انفصلت عنه زوجته سيسيليا لانها تريد ان تكون فردا، لا تريد ان تكون شأنا عاما، لم تغويها السلطة ولم تكن برغماتية، وعلى هذا يبدو ساركوزي الباحث عن العمل الدائم يعيش مأزق الحب برغم اختياره ضمن الرؤساء الاكثر اناقة.
ارث
يرى المفكر باسكال بروكنير أنه: "من دون ايار 1968 وعقليتها ما كان الفرنسيون لينتخبوا ابن مهاجر مجري من أم يهودية. معنى هذا أن ساركوزي الذي يَعِد بقصم ظهر انتفاضة 68 استفاد منها، بل وأفادته في وصوله إلى الحكم. في حين أن المفكر والجامعي دانييل بنسعيد، يرى أنه "يمكن تصفية إرث 1968 عن طريق التصدي لحق الإضراب وقانون العمل"، وهما من بين أمنيات الرئيس الجديد. غير ان بول بيرمان، استاذ التاريخ في جامعة نيويورك ومؤلف كتاب "السلطة والمثاليون" يعتبر انه في اوروبا اليوم ولا سيما في ادارة ساركوزي، جيل الـ68 اكثر تأثيرا على الارجح من اي وقت مضى.
في الستنيات تردد في فرنسا عن شهرة سارتر التي وصلت الى أبعد من نجومية أي فيلسوف أو رجل فكر، وفيه أنه "من الأفضل لأي انسان أن يكون مخطئاً مع سارتر من أن يكون مصيباً مع ريمون آرون"، ذلك أن اقتران اسمه مع سارتر وحده هو مفتاح الشهرة. ربما اعمق ما تبقى من وجودية سارتر هو عبارة "الاخرون هم الجحيم".
ربما من ينظر الى الحشود في الساحات، عليه ان يقول ان الاخرين هم الجحيم ولا شيء يبقى. والاحلام سرعان ما تصبح كوابيس.
الرأى نيوز