آخر ما كان ينتظره الكاتب الكبير محمد المنسى قنديل
من ثورة الخامس والعشرين من يناير أن تطيح
بروايته الجديدة «أنا عشقت»، التى
تقاطعت فصولها الأخيرة زمانيا مع اندلاع الثورة
الرواية الصادرة مؤخرا عن دار الشروق
فيما يقرب من 440 صفحة متوسطة القطع
تغلى داخلها قاهرة ما قبل يناير 2011 مباشرة
حيث طبقات الفساد
السياسى والاقتصادى والاجتماعى والأخلاقى
متداخلة ومتفاعلة كالمياه الفوارة
داخل زجاجة على وشك الانفجار
لذا عندما انفجرت مصر عن آخرها قبل أن ينفجر
كل ما فى الرواية
ظن صاحب
«انكسار الروح»
أن روايته قد ضاعت، فكتب إلى
صديقه الكاتب إبراهيم فرغلى
قائلا: إن الثورة قد أطاحت بكل الأشياء
التى أتحدث عنها فى روايتى
فرد عليه قائلا
«تسقط الكتابة وتحيا الثورة»
وقد كان، واصل قنديل الكتابة
لتجىء نهاية الرواية بمثابة النبوءة
لتك الحالة الملتبسة التى نعيشها الآن.. ما بعد الثورة؟
تأتى رواية «أنا عشقت» بعد أكثر
من عامين ونصف على روايته السابقة
«يوم غائم فى البر الغربى»
التى لاقت نجاحا كبيرا
وأوشكت أن تحصد جائزة البوكر العربية
بعد أن وصلت لقائمتها القصيرة
عام 2010
لتمثل «أنا عشقت» نقلة
مفارقة على مستوى العالم
والشخوص والأزمنة كذلك
إذ انحاز الكاتب فى الرواية الأولى
لولعه الدائم بالتاريخ فقدم مشهدا
فاتنا لمصر أواخر القرن 19 وأوائل القرن العشرين
تجاور فيها التاريخ الحقيقى والواقعى
لأحداث وأماكن وشخصيات منحوتة
ببراعة ومعشقة بالطابع الأسطورى
، لذا ربما يصعب تجاوز أسر هذه الرواية
والقفز إلى عالم الرواية الجديدة
بواقعها الآنى القاسى والمشتعل
لكن يرجو الكاتب أن يفلح القراء
فى تجاوزها لأنه يحاول ذلك
وأن يكفوا مثله عن
«الهرب»
«لقد شعرت أننى يجب أن أكف
عن الهرب فى الكتابة
الهرب إلى خارج حدود المكان
الذهاب إلى وسط آسيا مثلا
أو الهروب إلى خارج الزمن
والعودة إلى قرن مضى،
كان علىّ أن أواجه الواقع المعاصر
وأقدم شهادتى عنه
ففى سنوات التفسخ السياسى
يزدهر الأدب لأنه يرصد كل المتناقضات الصارخة
لقد حاولت أن أقوم برحلتى الخاصة فى متاهات القاهرة
التى كانت حبلى بكل عوامل الثورة، فتحدثت فيها
عن القاهرة بجراءة أولاد الأقاليم، وحلمت ببطل
يستطيع أن يحافظ على براءته
وسط هذا الجو الملوث الملىء بالعنف
فى هذه الرواية اقتدر الكاتب
بجرأة ومفارقة أن يفرش كل قسوة القاهرة
بمتناقضاتها وقبحها وسحرها
بين طرفى نول تقف على أحدهما
فتاة عاشقة نصف ميتة بسبب فراق الحبيب
وعلى الآخر حبيب يرجع ليعيد فتاته المتجمدة
على محطة القطار للحياة بقبلة
وبين رصيفى هذا المشهد العاطفى
تبدأ الحكاية من مدينة الغزل الصغيرة المطحونة
المتهمة دائما بإثارة الشغب
المدينة المقسم زمانها إلى ورديات
عمل يخرج منها فجرا الرجال
بعفريتتهم الزرقاء المقهورة
ليتسلل إليها النساء فى الوردية التالية
وتندلع الحياة فقط فى تلك اللحظة
التى يتواجه خلالها الخارجون
والذاهبات إلى تلك الورديات
مثل كل حفلات الرقص
«فى تلك اللحظة الحميمة
كان تعب الليل وضآلة الأجر
وهموم الديون وكآبة العيش
وتأخر سن الزواج
ومخاوف الفصل التعسفى
والتوق إلى عمل آخر فى مدينة أقل شقاء
كل هذه الأشياء تذوب
وسط هذه الدوامات الراقصة
تمضى مبتعدة تاركة الشارع
الممتد للفتاة المتشبثة بأصابع حبيبها
سألته
لماذا اخترت محطة القطار مفتتحا لروايتك
ولماذا كانت النهاية فى صالح القاتل الذى كان حالما؟
محطة القطار هى مكان الوداع الذى لا ينتهى
والمصائر التى تتقاطع، الذين يسافرون لا يعودون
وهم نفس الأشخاص
حدث هذا معى عندما عدت لمدينتى
بعد غياب سنوات
لم أستطع التعرف على معالمها
وتهت فى شوارعها
بدت لى أصغر وأكثر قدما
ثم تبينت أن المدينة لم تتغير
أنا الذى تغيرت، وهو نفس ما حدث مع أبطال روايتى
لقد ضاعت أحلامهم فى مكان آخر
وعادوا أشخاصا غرباء يحملون
قلوبا مجروحة وأرواحا محملة بالذنوب
بعد مشهد الفراق العاطفى
الذى رواه الكاتب فى فصل كامل على لسان كل سكان المدينة
تبدأ رحلة على طالب نهائى طب
لمطاردة الحبيب المارق وإعادته لحبيبته المتجمدة ورد
وهى رحلة متعبة ومخيفة
سيكون خلالها هذا البطل البرىء
عين الكاتب والقارئ وشخوص الرواية فى آن
على خفايا القاهرة التى ستظل دائما غريبة وملغزة
ولسانهم الذى سيذوق خلطة الحب
والجنس والسياسة والخوف والرعب والمطاردة
ليس لذلك فقط ينفرد
«على»
بعناوين أربعة فصول يحكيها كاملة لوحده
على لسانه، وطبقا لما رأت عينه
فى القاهرة المسحورة المسعورة
لكنك لن تستطيع أن تمنع نفسك
من التلصص على مدى صلة هذا الـ
«على»
طالب الطب ابن مدينة مصنع الغزل
بالكاتب الطبيب المحلاوى
ولهذا تفسيره القديم لدى الكاتب
«على»
طالب الطب هو بطلى الأثير
هناك دائما حبل سرى يربط بين الكاتب وبطله
وقد ظهر على فى كل رواياتى ما عدا
«يوم غائم فى البر الغربى»
لأنها تعود إلى قرن من الزمن
وكذلك لن يكون موجودا فى الرواية
التى أقوم بكتابتها الآن لأنها تعود إلى تاريخ أبعد
ولكن عندما أكون مع
«على»
يكون أداؤنا أفضل، وهو يظهر فى تجليات مختلفة
فى كل واحدة من الروايات الثلاث، ولكنه يعتمد
على خبرتى الشخصية
والرواية تحتاج للعديد من الخبرات الإنسانية
لا يستطيع الكاتب أن يبدأ بها حياته
ولكنه يستخدم شكلا تجريبيا مثل القصة القصيرة
فهى تجربة فى اللغة والرؤية والنظر للحياة
وقد جاء انتقالى للرواية بشكل طبيعى
لأننى أحب السرد والأحداث المركبة
وقد ساعدنى على ذلك أن
«على»
كان بجانبى
بجوار
«على»
كانت ثمة فصول أخرى
أخذ بناصيتها وتصدر عناوينها
أبطال آخرون مثل
عزوز: مهرج الشوارع
عبدالمعطى: خريج السجون
سمية يسرى: رابعة هندسة
وذكرى البرعى: سيدة أعمال
شخصيات حالمة ومعذبة ومذنبة
كتلك التى يتفانى فى رسمها المنسى قنديل
تكاد كل منها أن تكون رواية بذاتها
وليس أقل منهم فتنة
شخصية جمعة ناظر المحطة
ولا محروس المخبر
ولا الطبيب الشرعى
أو ضابط قسم أول
ولا حتى عامل المصنع
الذى دهسته أقدام العساكر وهو يحاول
أن يمنع زملاءه من إحراق المصنع
ولا العاشق المثقف الذى تحول إلى قاتل محترف
أو البحار الذى أغواه البحر فترك مدينته وغيرهم
ممن يؤكدون مكان ـ مكانة الشخصية فى أعمال الكاتب
ويشكل جميعهم ملامح الشخصية المصرية بشكل عام
تلك المولع بالتفتيش وراءها وعنها
صاحب
«قمر على سمر قند»
«أردت أن أكشف عن الطبقات
التى تتكون منها الشخصية المصرية
فنحن بلد مكون من تراكم الطبقات الحضارية
طبقة فرعونية بالغة القدم
وفوقها طبقة من الحضارة المسيحية
تغطيها طبقة من الحضارة الإسلامية
والشخصية المصرية فيها خصائص وصفات
من هذه الطبقات الثلاث
لذلك فإن عمليات رفض الآخر
ومظاهر التعصب الدينى التى نشاهدها
كلها منافية لروح هذه الشخصية
وهى تعنى أننا نمر بمرحلة مرضية
يجب أن نجتازها جميعا
وقد رصدت فى الرواية السلوكيات
الجديدة للشخصية المصرية
سلوكيات العشوائيات وحالة الإحباط المزمنة
فنحن أحيانا نتصرف كأننا
شخصيات خارجة من أعماق الغابة
وليس من جوف التاريخ
نتصرف ببدائية مقيتة وبقسوة لا مبرر لها
أعرف أن لديك مشاريع روايات
بدأت ولم تكتمل، لماذا اخترت من بينها
«أنا عشقت»
للخروج للنور
هل شعرت أنها رواية اللحظة الآنية؟
بالفعل لقد فرضت هذه الرواية نفسها على
كنت قد بدأت فى كتابة رواية عن تجربتى
كطبيب فى الأرياف،
ولكن الواقع كان أكثر سخونة
من أن أستطيع تجاهله، وبدأت فكرة
«أنا عشقت»
فى الاستحواذ على ذهنى
عندما كنت أهبط إلى وسط البلد
لأجد المصريين البؤساء الذين لا يجدون من يأبه بهم
وهم يحتلون أرصفة الشوارع التى تحيط بمجلس الشعب
وهم يصرخون ويمسكون فى أيديهم الأحجار ويدقون بها
على الحواجز الحديدة التى تحاصرهم
كانوا يصدرون صوتا كالرعد جعلتنى
أرتعد وأهتز من الداخل
لأدرك أن مظاهر السخط
قد وصلت لحدها الأقصى»
يستدرك
«من الغريب أن المسئولين
فى ذلك الوقت لم يسمعوا هذا الهدير،
ومن حسن الحظ أيضا لأن الثورة
قد تولدت من خلال هذه الصرخات»
تلك بعض ملامح الرواية الأخيرة لصاحب
«أغنية المشرحة الخالية»
لكن ملامح مشوار الكاتب
وصولا لهذه الرواية يرصدها قائلا
رواية
«انكسار الروح»
كان فيها جزء من السيرة الذاتية
والرواية الأولى فى حياة الكاتب يكون دائما
فيها هذا الطابع، بعد ذلك نمت تجربتى الحياتية
وشاهدت العالم على اتساعه كما لم أره من قبلا
متسعا ومليئا بالدهشة
كتبت مجموعة من القصص بعنوان
«عشاء برفقة عائشة»
كل قصة أتممتها فى بلد مختلف
وكتبت رواية
«قمر على سمرقند»
من وحى رحلة قمت بها إلى
جمهوريات آسيا الوسطى
التى كانت تابعة للاتحاد السوفييتى
كنت هناك وهذه الدول تولد من جديد
وشاهدت مخاضها العسير
وهى تنتقل من مرحلة إلى أخرى،
وجاءت فكرة الرواية فى ليلة
قضيتها ساهرا بجانب قبر الإمام
«البخارى»
ولأنها رحلة يختلط فيها الحاضر بالتاريخ
فكان يجب أن أعيد استكشاف
هذه البقع الغريبة على القارئ العربى، وفى رواية «يوم غائم فى البر الغربى»، عدت إلى الوراء لمائة عام تقريبا لأصور مصر فى فترة كانت تبحث فيه عن هويتها، لقد كان المصريون مجرد أرقام هامشية، يموتون بالآلاف فى حفر قناة السويس والحروب والأوبئة والفيضانات، فى هذه الفترة تبينا فى هذه الفترة أننا لسنا أرقاما، إنما ذوات متفردة، لنا وجوه وملامح وأسماء ومصائر، وللأسف فإن هذه الفترة قد انطمست فى عهد مبارك وعدنا لنصبح أرقاما نموت فى حوادث العبارات والقطارات والحرائق وتهاوى الصخور، لا يسأل أحد عن مصائرنا ولا يطلب أحد بثأرنا، وفى روايتى الأخيرة «أنا عشقت» قفزت للواقع المعاصر، فى مصر التى تغلى فى انتظار قيام الثورة، لقد حاولت أن أباعد فيها بينى وبين الماضى الذى شغلنى البحث فيه، ولكنى أعترف لك أننى عدت فى الرواية التى أكتبها للتاريخ مرة أخرى، التاريخ المصرى هو كنز لأى كاتب، وحين أنظر للروايات المستقاة من التاريخ المصرى والذى كتبها كتّاب أجانب تدهشنى كثرتها وروعتها، فأقول لنفسى لماذا أهمل كنزا أمتلكه بالفعل، الكتابة لا تعبر عن روح الكاتب، إنها روحه نفسها، وقوت حياته وبهجته الخاصة
دوَّن الكاتب فى نهاية روايته تاريخ كتابة آخر سطورها
فوق سفح جبل مونتريال بكندا،
حيث يقيم مع أسرته منذ قرر التفرغ للكتابة
وعندما سألته متى سيعود للقاهرة لم أتوقع
أن تأتى إجابته من خلف كل هذا الشجن
«بخصوص عودتى فذات لحظة كرهت القاهرة
وكرهت الوطن، وكرهت الوجوه التى تضحك
وهى تستعد للطعن فى الظهر
وكنت أريد أن أبتعد لفترة حتى أشفى من جراحى الصغيرة وأعود
ولكن عندما يعبر الإنسان الحدود تتكسر الكثير من الموانع
ويصبح الحنين شيئا من الذكرى
لقد أتيح لى أن أكتشف العالم
وأطوف فى قاراته المترامية
وكانت فرصة نادرة ولكنها أخذتنى بعيدا
من نفسى ومن جذورى
ومنذ شهور قليلة كنت فى المكسيك
وكنت أجلس على حافة جبل فى قمته بركان ينفث الحمم
واكتشفت أننى منذ زمن طويل وأنا أعيش هكذا
على حافة أرض غير مستقرة، الحنين يستبد بى الآن
وعلىّ أن أعود قبل أن أموت غريبا ويضم جسدى قبر غريب