اوباما المنتظر .......مقال للاستاذ فهمى هويدى

أوباما المنتظر
فهمى هويدى
- أرأيت كيف أسرفنا على أنفسنا، حتى أوهمناها بأن زيارة أوباما جائزة كبرى لمصر، وأن خطابه معقد أمل الفلسطينيين والعرب والمسلمين أجمعين؟
(1)
حين قرأت وصفا لزيارة الرئيس الامريكي الى القاهرة بأنها «تاريخية» في أكثر من مقال لبعض القيادات الاعلامية المصرية، لم أجد لذلك تفسيرا سوى أننا اعتدنا أن نصف كل ما يصدر عن الرئاسة من أقوال وأفعال بأنه تاريخي. لكني لم أتوقع أن تكون عباءة التاريخ عندنا فضفاضة الى الدرجة التي تستوعب ما يصدر عن أي رئيس آخر يمر بمجالنا الجوي.
ولم تكن تلك هي المبالغة الوحيدة، لأن سيل الكتابات التي تناولت الرحلة «المقدسة» أسرف في التباهي باستقباله، وفي الحفاوة به والآمال المعقودة عليه، على نحو أعطى انطباعا بأن الرجل جاء «مخلِّصا» يحمل مفاتيح الفرج، وأنه ليس مجرد زائر كبير المقام. لكن ما كان مثيرا للرثاء والسخرية هو الكتابات التي علقت على اعلانه الأول بأنه سيخاطب العالم العربي والاسلامي من القاهرة، وتلك التي ظهرت بعد التصريحات التي تحدثت عن أنه سوف يزور المملكة السعودية أولا، قبل قدومه الى مصر. اذ في أعقاب الاعلان الأول انطلقت بعض الأبواق معددة مناقب النظام القائم في مصر التي جذبت الرئيس الامريكي اليها، وجعلته يختارها دون غيرها منبرا لمخاطبة العالم العربي والاسلامي.ولم يفت تلك الأبواق أن تعتبر الزيارة الميمونة ردا مفحما على القائلين بتراجع الدور المصري، وشهادة تثبت أن «أم الدنيا» مازالت على فتوتها وعافيتها، وعند حسن ظن الآخرين بها. وهي اللهجة التي خفت نبرتها حينما أعلن أن الرئيس الامريكي سيزور الرياض أولا، وظهرت الكتابات السعودية التي امتدحت قدومه الى «المنبع الأول للحضارة الاسلامية»، وتحدثت عن «الانطلاقة العظيمة للعلاقة بين اوباما والملك عبد الله ( الحياه 5/31)». وقرأنا على الصفحة الأولى لجريدة الشرق الأوسط (عدد 5/28) أن الرجل قرر زيارة الرياض «تعبيرا عن عمق العلاقات الاستراتيجية مع المملكة، وتقديرا لدور الملك عبدالله في اطلاق مبادرة السلام». و..«بسبب وزن السعودية ودورها في كل الملفات التي تهم أمريكا والمنطقة (ذلك أن) القضايا المعقدة والشائكة تستلزم تبادل وجهات النظر مع السعودية. وفيما خص تحركات أمريكا نحو السلام أو نحو ايران كان لابد أن يكون هناك تنسيق امريكي سعودي مصري.
لست في صدد استعراض النصوص التي نشرت في مصر والسعودية بهذه المناسبة، لكنني أشير بسرعة الى أن مضمونها جدير بالتحليل، لأنها في مجموعها شهادة علينا وليست لنا. اذ هي تكشف عن رغبة ملحة في تضخيم الذات، وشعور بعدم الثقة في النفس، والتعلق بأمل «المخلِّص» الذي يأتينا من وراء الحجب لكي ينصف المظلومين ويرفع البلاء عن المغبونين والمكروبين.
(2)
الكلام كثير عن أهداف زيارة الرياض والقاهرة، التي خصص لها 17 ساعة، 9 منها في العاصمة السعودية وثمانى ساعات في مصر. وقصر الوقت المخصص للبلدين دال على أن الرجل قادم لا لكي يجري محادثات، ولكن لأن عنده ما يقوله وما يريد أن يعلنه على العالم العربي والاسلامي. وحسب معلوماتي فان زيارته لها ثلاثة محاور أساسية هي: تعزيز فكرة المصالحة مع العالم الاسلامي التي عبر عنها في أكثر من مناسبة لانقاذ سمعة الولايات المتحدة وتحسين صورتها ــ طرح أفكاره الخاصة بدفع مسيرة السلام بين العرب واسرائيل ــ مناقشة المدى الذي يمكن أن يقدمه العرب اسهاما في استقرار العراق، وحل مشكلة الموقف المتدهور في أفغانستان وباكستان، وفي التعامل مع البرنامج النووي الايراني.
الرائج حتى الآن أن الأفكار التي جاء بها تشمل ما يلي:
ــ الدعوة الى تفعيل المبادرة العربية و«تطويرها». والمقصود توسيع نطاقها بحيث تصبح عربية واسلامية، وفي الوقت ذاته اعادة صياغة موقفها في حق العودة، بحيث يصبح المراد به العودة الى الدولة الفلسطينية التي يفترض قيامها، وليس الى المدن والقرى التي أخرج منها الفلسطينيون في عام 1948 مع تقديم التعويضات المناسبة للذين يؤثرون الاستيطان في الأقطار العربية التي لجأوا اليها.
ــ اعلان التمسك بحل الدولتين الفلسطينية الى جانب الاسرائيلية، والتسريبات تتحدد عن سقف زمني لاقامة الدولة الفلسطينية المرجوة يتحدد بنهاية الولاية الأولى للرئيس أوباما (في سنة 2013).
- الدعوة الى وقف الاستيطان بجميع أشكاله في الضفة الغربية.
ــ مطالبة الفلسطينيين بالتهدئة وانهاء المصالحة، فيما بينهم، لاستئناف مفاوضات التسوية السلمية مع اسرائيل.
ــ الاستعانة بالجهد السعودي في وقف التدهور في أفغانستان وباكستان، باعتبار أن المملكة تحتفظ بجسور تسمح لها ببذل جهد في هذه الساحة، خصوصا في الجانب الباكستاني.
ــ شرح موقف واشنطن في اتصالاتها الجارية مع ايران.
(3)
المعلومات المتوافرة تشير الى أن الأفكار الأمريكية مقبولة من جانب السلطة الفلسطينية ودول «الاعتدال» العربي، لكنها غير مقبولة من جانب الحكومة الاسرائيلية الحالية. ان شئت فقل ان المجني عليه يبدو راضخا ومتساهلا بينما الجاني هو المتعنت والمتعالي. اذ لم يعد سرا أن السلطة الفلسطينية قبلت منذ وقت مبكر (مفاوضات ياسر عبد ربه وبيلين) باسقاط حق العودة مقابل التعويض والتوطين (للعلم حين حاولت السلطة تسويق المبادرة العربية ونشرت اعلانات عنها في الصحف الاسرائيلية. فانها حذفت منها النص على حق عودة اللاجئين)، كما أنها قبلت بمبدأ تبادل الأراضي، بمعنى أنها لم تعد متمسكة باستعادة ذات الأراضي التي تم احتلالها في سنة 67، ولكنها أعلنت عن أنها لا تمانع في أن تقيم الدولة على مساحة تعادل الأراضي التي تم احتلالها بصرف النظر عن موقعها. أما فيما يخص القدس، فان وزير الأوقاف في حكومة السلطة أعلن قبول فكرة وضع المسجد الأقصى تحت اشراف منظمة المؤتمر الاسلامي (تدويله) بما يعنى أن تظل السلطة الفعلية لاسرائيل.
العقبة تبدو في الموقف الاسرائيلي. أولا لأن نتنياهو له منظور مغاير يعتبر أن الأولوية يجب أن تمنح للملف الايراني وليس الفلسطيني، ومشكلة الشرق الأوسط في رأيه لم تعد ممثلة في الصراع العربي الاسرائيلي، وانما صارت صراعا بين المعتدلين (اسرائيل وبعض الدول العربية) والمتطرفين الذين يصطفون مع ايران ويؤيدون المقاومة. وفي الوقت الذي تتمسك فيه الحكومة الراهنة بيهودية الدولة وتهويد القدس، فانها ترفض فكرة الدولتين وتعارض وقف الاستيطان، وقد أعلن رئيسها أمام الكنيست أن السلام يمكن أن يتحقق من خلال ثلاثة مداخل، أولها تقدم التطبيع مع الدول العربية، وثانيها اقامة مشروعات اقتصادية في الضفة مع السلطة الفلسطينية، وثالثها دفع العملية السياسية مع الفلسطينيين. أي ان ما يعرضه نتنياهو لا يتجاوز المطالبة بتطبيع العلاقات مع الدول العربية مع اقامة حكم ذاتي يسعى الى انعاش الاقتصاد الفلسطيني. وهو يعتبر ذلك «تنازلا» من جانبه للفلسطينيين والعرب، و«فرصة سانحة» يتعين عليهم امتثالها.
هذه المواقف تتعارض مع رؤية أوباما ومقترحاته، على نحو يفتح الباب لاحتمال الصدام بين الطرفين الامريكي والاسرائيلي. ورغم أن نتنياهو في كتابه «مكان تحت الشمس» ارتأى أن اسرائيل الصغيرة تستطيع أن تتحدى أمريكا الكبيرة، الا أننا لسنا بصدد موقف من هذا القبيل، وان بدا في ظاهره كذلك. اذ لا يشك أحد في أن الولايات المتحدة لها نفوذها القوى في الساحة السياسية الاسرائيلية الذي يمكنها من اسقاط حكومة نتنياهو (بإشارة مثلا الى ايهود باراك رئيس حزب العمل تحثه على الاستقالة مثلا تؤدي الى عودة حزب كاديما بزعامة تسيبي ليفني الى الواجهة مرة أخرى). وفي الوقت ذاته فان أحدا لا يشك في أن اسرائيل لها نفوذها القوى في الولايات المتحدة الذي يمكنها من التأثير على القرار السياسي هناك.
لا تفوتنا هنا ملاحظة أن مبدأ الدولة الفلسطينية، الذي يبدو مثار خلاف الآن، قبل به رئيس الوزراء السابق ايهود أولمرت، وقبله أرييل شارون، كما حدد الرئيس بوش موعدا للوفاء به في نهاية ولايته، ولكن لم يتحقق شيء من ذلك الوعد، ولم تقم للدولة ولا للسلام قائمة. وما حدث أن الاستيطان استمر وتهويد القدس تسارعت خطاه، وشنت اسرائيل حربين في لبنان وغزة.
الملاحظة الأخرى التي يتعين الانتباه اليها أن الحديث الامريكي عن الدولة الفلسطينية لايزال غامضا، بمعنى أنه لم يتحدث عن الأرض التي ستقام عليها الدولة الموعودة. لذلك ليس مستبعدا أن تظل آمالنا معلقة على الفكرة، ثم نكتشف في النهاية أن التصور الامريكي لتلك الدولة ليس بعيدا عن التصور الاسرائيلي، الذي يحولها الى «دولة بقايا» للفلسطينيين منقوصة السيادة والاستقلال في غزة وعلى أجزاء مبعثرة في الضفة موصولة ببعضها بواسطة جسور وأنفاق. وهذه الفقرة الأخيرة ليست من عندى ولكنها للدكتور على الجرباوي أستاذ العلوم السياسية، مقتبسة من مقال له نشر في 5/5، قبل أن يصبح وزيرا في الحكومة الفلسطينية الأخيرة.
(4)
بعدما قامت حكومة نتنياهو بتعلية سقف المطالب والشروط الاسرائيلية، فأخشى ما أخشاه أن نواجه بضغوط أمريكية تطالب الطرفين بتقديم «تنازلات متبادلة» تؤدي مثلا الى قبول الحكومة الاسرائيلية بحل الدولتين والموافقة على ازالة ما تسميه المستوطنات غير الشرعية وعلى استئناف المفاوضات مع الفلسطينيين، في مقابل اسقاط حق العودة والبدء في تطبيع العلاقات مع بقية الدول العربية. وفي هذه الحالة فان حكومة نتنياهو ستعود الى النقطة التي وقفت عندها حكومة أولمرت، في حين أن العرب سيقطعون أكثر من نصف الطريق نحو التصفية المجانية للقضية الفلسطينية. ومن ثم يصبح التنازل الحقيقي مطلوبا من العرب وليس الفلسطينيين.
حينما تولى نتنياهو رئاسة الحكومة الاسرائيلية في عام 96، وجاء متبنيا الآراء التي يعبر عنها الآن، انعقدت القمة العربية في العام ذاته وهددت باتخاذ موقف حازم ازاء سياسته، لوحت فيه بتجميد العلاقات التي كانت قائمة وقتذاك مع الدولة العبرية. ولم تستمر حكومته لأكثر من ثلاث سنوات، اضطرت بعدها لاجراء انتخابات مبكرة. لكن الوهن الذي أصاب الصف العربي في الوقت الراهن أعطى انطباعا بأن هناك من هو على استعداد للتنازل هذه المرة، الى الحد الذي يمكن أن يستجيب للضغوط الأمريكية المستجدة. وذلك هو المحظور الذي نحذر من الوقوع فيه.
ليست مشكلة الطرف العربي والفلسطيني أنه لا يملك أوراقا يواجه بها الضغط الامريكي أو الصلف الاسرائيلي، ولكن مشكلته أنه لا يملك ارادة الصمود ورفض التنازلات، ويؤثر أن يغطى عجزه بانتظار ما يجود به أوباما أو غيره.
علما بأن الادارة الأمريكية الجديدة بحاجة الى العرب في الوقت الراهن أكثر من حاجتها لاسرائيل. هي بحاجة الى نفط العرب ودعمهم المالي ومساندتهم السياسية في العراق وأفغانستان وباكستان، في حين أن اسرائيل تظل عبئا على الولايات المتحدة، بسياستها التي أشاعت عدم الاستقرار في الشرق الأوسط، وبضغوطها التي تسعى الى توريطها في مواجهة مسلحة مع ايران.
ان العرب يستطيعون أن يتكئوا على عناصر القوة في موقفهم ويرفضوا الابتزاز الاسرائيلي وتقديم أية تنازلات لها، فيما تعلق بالتطبيع أو حق العودة أو تبادل الأراضي أو التسويف في مصير القدس المحتلة. ولن يلومهم أحد اذا ما تمسكوا بموقف الرفض وامتنعوا عن استئناف المفاوضات وتقديم أية مبادرات، وطالبوا كل من يريد مصالحة العرب أن يخاطب الغاصب والمحتل، وليس الضحايا. ومشكلة هذا الموقف أنه يتطلب ارادة مستقلة وشجاعة. وفي الزمن العربي هذا فان الارادة المستقلة أصبحت مما نسمع عنه ولا نراه، تماما كالغول والعنقاء والخل الوفي. ولأن الأمر كذلك، فينبغي ألا نستبعد أن تكون اسرائيل هي المستفيد الأول من رحلة أوباما ورؤيته، وأن يصبح الفلسطينيون والعرب هم الخاسر الأكبر
صحيفة الوطن الكويتيه
الثلاثاء 9 جمادى الآخر 1430
2-يونية -2009
.