مشوار واحد مع ثلاثة سائقين مختلفين
أصبحتُ أفضِّل التاكسى الأبيض
لأن قوانينه واضحة وتتلاءم
مع شخص مرتبك مثلى
مشكلتى مع التاكسى الأسود دائما
كانت عدم القدرة على تحديد النقطة
التى يشعر عندها السائق بالرضا
لدىَّ قاعدة أن السائق دائما على حق
ويستحق ما يطلبه وله كامل الحرية فى تقييم جهده
أتذكر أنى يوما ما كنت فى مدينة دهب
ودخلت محلا يبيع التحف الخشبية المصنوعة يدويًّا
أمسكت بقطعة ديكور أعجبتنى
وسألت البائع عن سعرها فقال خمسمئة جنيه
أدهشنى الرقم فسألته بجدية تامة
«خمسمية ليه؟ هى مش خشب؟!»
فأجاب ببساطة وثقة
«أيوه.. بس أنا مش بابيع خشب»
سائق التاكسى الأسود عادة ما يُعجِزنى صمته
إذ أفشل فى مغادرة سيارته راضيا
عن نفسى حيث لا أفهم إن كنت منحته
حقه بالضبط أم كنت كريما معه
أم أننى قد ظلمته وكان صمته
تفويضا لله فى الأمر
وأسعد كثيرا إذا ما اعترض وطلب المزيد
هنا بالضبط أشعر بالرضا حتى لو كان مبالغا
فى النهاية جنيهات قليلة زائدة
على المتوقع تمنحنا سعادة مشتركة
التاكسى الأبيض يحدد المطلوب بدقة
و يحدد لك الحد الأدنى من الجود
هو جود وليس كرمًا فالكرم
أن تعطى بعد السؤال والجود
أن تعطى دون سؤال
وجنيهات قليلة أزيَد من الأجر
الذى ارتضاه السائق لنفسه
فى اللحظة التى قام فيها بتشغيل العداد
لن تغير شيئا فى حياة أى منكما
فلا قيمة شرائية حقيقية لها،
لكنها مجرد وَنَس متبادَل بينك
وبين شريك فى رحلة قصيرة
لن تخرج منها خالى الوفاض أبدا
كان السائق الأول حاسمًا فى وجهة
نظره القائمة على أن حل جميع المشكلات
التى نعيشها مرهون بإعدام الرئيس المخلوع
أنا شخصيا فقدت حساسية هذا الربط
بل وأكاد أكون نسيت أمر المخلوع تماما
قال السائق
«أنا استغفر الله العظيم كل يوم باتمنى نخلص منه»
، سألته عن الحكمة فقال
«طول ما هو على قيد الحياة فالجميع
سيحصلون على البراءة فى قتل المتظاهرين
إدانة أمين شرطة واحد ستكون بداية الطريق
لإدانة المخلوع فى قتل المتظاهرين»
قلت له مشاكسا «مش يمكن هُمّا مظلومين فعلا؟»
فحكى لى عن الاثنتى عشرة جثة
التى شارك فى جمعها أمام أحد أقسام الشرطة،
ثم ذكر لى اسم المأمور ثلاثيا مصحوبا
برأيه الشخصى فى والدته قائلا
إن ضحايا يوم جمعة الغضب على يديه
لا يقارنون بضحايا أيام ما قبل الثورة
راجعته فى وجهة نظره فأكدها
«اعدم مبارك وكل كلب هيدخل جحره»
السائق الثانى
كان محبا لأبو إسماعيل
ماذا إن سقط؟
سألته
فأجابنى ببيت شعر فصيح
حاول لفترة طويلة أن يتذكر اسم قائله
دون فائدة إلى أن أعفيته من الحرج مطالبا
إياه أن يذكر لى البيت
وليس مهما اسم قائله فاندهش قائلا
«إزاى؟! ده حق الشاعر»
أدهشنى حرصه على الحقوق الأدبية
وأنا الذى كدت أفقد الأمل فى أن يراعيها
أحد فى زمننا هذا
سألته إن كان يكتب الشعر
فقال إنه مدرس عربى
ويحفظ مئات الأبيات
قبل أن أخرج من التاكسى كررت
عليه طلبى باحترام فضولى
فى معرفة البيت على وعد أن أبحث
عن اسم قائله على النت فقال
: وكَمْ مَلِكٍ قَدْ رُكِّمَ التُّرْبُ فَوْقَهُ
وَعَهْدِى بِهِ بِالأَمْسِ فَوْقَ الْمَنَابِرِ
إِذَا أَبْقَتِ الدُّنْيَا عَلَى الْمَرْءِ دِينَهُ
فَمَا فَاتَهُ مِنْهَا فَلَيْسَ بِضَائِرِ
لمحت فى عينيه ابتسامة كل مدرِّسى العربى
فى مسيرتى التعليمية وهو يرانى
أسجِّل البيتين على الموبايل
السائق الثالث فتح الموضوع دون مقدمات
فقال لى: فيه برنامج اسمه
«صبايا»
يُعرض على قناة
«النهار»
منذ يومين عرض البرنامج قصة رجل أعمال وزوجته
توُفِّيا فى حادثة سيارة
وتركا طفلاً رضيعًا وبنتًا عمرها ثلاث سنوات
بعد دفنهما بيومين طمع العم فى الميراث كله
فقال للطفلة
«هاتى شقيقك وتعالى نزُر أمك»
وهناك فتح باب المقبرة الحديدى
وأدخلهما القبر وتركهما وانصرف
ثم أبلغ عن اختفائهما
بحث الجميع عنهما إلى أن فقدوا الأمل
وفى ذكرى الأربعين توجهت نساء من العائلة
لزيارة قبر الضحايا فسمعن أصواتا بالداخل
فتحن المقبرة فوجدن الولد والفتاة
على قيد الحياة وفى صحة جيدة
كانت الطريقة التى يروى بها السائق
هذه الحكاية مؤثرة لدرجة أنى رفضت
أن أقاومها وظللت أستجوبه كأنه كان شاهدا
، سألته كيف كانوا يأكلون فقال:
قالت الطفلة للمذيعة إن الأم كانت تصحو
من نومها لترضع شقيقها ثم تنام،
أما هى شخصيا فقالت لها إن الحديقة
التى حبسهما فيها العم
كانت ذاخرة بالفاكهة والطعام من كل نوع
قلت له: وأنت مصدق؟
فقال
البنت كانت قد سَمِنَت بالفعل بشهادة قريباتها
وكان الجميع غير مصدقين إلحاح البنت
فى رغبتها فى العودة إلى حديقة أمها من جديد
حاول أن يتذكر اسم المذيعة ليؤكد لى
صدق روايته فقلت له: ريهام؟
فبدت على وجهه ثقة العثور على دليل
يؤكد كلامه بما أننى أعرف المذيعة،
سألنى إن كنت أتابعها فقلت له:
لا والله أنا باتابع يسرى فودة.. بتحبه؟
فابتسم لى لى بكل خجل وأدب قائلا:
«لا والله ماعرفوش»
أصبحتُ أفضِّل التاكسى الأبيض
لأن قوانينه واضحة وتتلاءم
مع شخص مرتبك مثلى
مشكلتى مع التاكسى الأسود دائما
كانت عدم القدرة على تحديد النقطة
التى يشعر عندها السائق بالرضا
لدىَّ قاعدة أن السائق دائما على حق
ويستحق ما يطلبه وله كامل الحرية فى تقييم جهده
أتذكر أنى يوما ما كنت فى مدينة دهب
ودخلت محلا يبيع التحف الخشبية المصنوعة يدويًّا
أمسكت بقطعة ديكور أعجبتنى
وسألت البائع عن سعرها فقال خمسمئة جنيه
أدهشنى الرقم فسألته بجدية تامة
«خمسمية ليه؟ هى مش خشب؟!»
فأجاب ببساطة وثقة
«أيوه.. بس أنا مش بابيع خشب»
سائق التاكسى الأسود عادة ما يُعجِزنى صمته
إذ أفشل فى مغادرة سيارته راضيا
عن نفسى حيث لا أفهم إن كنت منحته
حقه بالضبط أم كنت كريما معه
أم أننى قد ظلمته وكان صمته
تفويضا لله فى الأمر
وأسعد كثيرا إذا ما اعترض وطلب المزيد
هنا بالضبط أشعر بالرضا حتى لو كان مبالغا
فى النهاية جنيهات قليلة زائدة
على المتوقع تمنحنا سعادة مشتركة
التاكسى الأبيض يحدد المطلوب بدقة
و يحدد لك الحد الأدنى من الجود
هو جود وليس كرمًا فالكرم
أن تعطى بعد السؤال والجود
أن تعطى دون سؤال
وجنيهات قليلة أزيَد من الأجر
الذى ارتضاه السائق لنفسه
فى اللحظة التى قام فيها بتشغيل العداد
لن تغير شيئا فى حياة أى منكما
فلا قيمة شرائية حقيقية لها،
لكنها مجرد وَنَس متبادَل بينك
وبين شريك فى رحلة قصيرة
لن تخرج منها خالى الوفاض أبدا
كان السائق الأول حاسمًا فى وجهة
نظره القائمة على أن حل جميع المشكلات
التى نعيشها مرهون بإعدام الرئيس المخلوع
أنا شخصيا فقدت حساسية هذا الربط
بل وأكاد أكون نسيت أمر المخلوع تماما
قال السائق
«أنا استغفر الله العظيم كل يوم باتمنى نخلص منه»
، سألته عن الحكمة فقال
«طول ما هو على قيد الحياة فالجميع
سيحصلون على البراءة فى قتل المتظاهرين
إدانة أمين شرطة واحد ستكون بداية الطريق
لإدانة المخلوع فى قتل المتظاهرين»
قلت له مشاكسا «مش يمكن هُمّا مظلومين فعلا؟»
فحكى لى عن الاثنتى عشرة جثة
التى شارك فى جمعها أمام أحد أقسام الشرطة،
ثم ذكر لى اسم المأمور ثلاثيا مصحوبا
برأيه الشخصى فى والدته قائلا
إن ضحايا يوم جمعة الغضب على يديه
لا يقارنون بضحايا أيام ما قبل الثورة
راجعته فى وجهة نظره فأكدها
«اعدم مبارك وكل كلب هيدخل جحره»
السائق الثانى
كان محبا لأبو إسماعيل
ماذا إن سقط؟
سألته
فأجابنى ببيت شعر فصيح
حاول لفترة طويلة أن يتذكر اسم قائله
دون فائدة إلى أن أعفيته من الحرج مطالبا
إياه أن يذكر لى البيت
وليس مهما اسم قائله فاندهش قائلا
«إزاى؟! ده حق الشاعر»
أدهشنى حرصه على الحقوق الأدبية
وأنا الذى كدت أفقد الأمل فى أن يراعيها
أحد فى زمننا هذا
سألته إن كان يكتب الشعر
فقال إنه مدرس عربى
ويحفظ مئات الأبيات
قبل أن أخرج من التاكسى كررت
عليه طلبى باحترام فضولى
فى معرفة البيت على وعد أن أبحث
عن اسم قائله على النت فقال
: وكَمْ مَلِكٍ قَدْ رُكِّمَ التُّرْبُ فَوْقَهُ
وَعَهْدِى بِهِ بِالأَمْسِ فَوْقَ الْمَنَابِرِ
إِذَا أَبْقَتِ الدُّنْيَا عَلَى الْمَرْءِ دِينَهُ
فَمَا فَاتَهُ مِنْهَا فَلَيْسَ بِضَائِرِ
لمحت فى عينيه ابتسامة كل مدرِّسى العربى
فى مسيرتى التعليمية وهو يرانى
أسجِّل البيتين على الموبايل
السائق الثالث فتح الموضوع دون مقدمات
فقال لى: فيه برنامج اسمه
«صبايا»
يُعرض على قناة
«النهار»
منذ يومين عرض البرنامج قصة رجل أعمال وزوجته
توُفِّيا فى حادثة سيارة
وتركا طفلاً رضيعًا وبنتًا عمرها ثلاث سنوات
بعد دفنهما بيومين طمع العم فى الميراث كله
فقال للطفلة
«هاتى شقيقك وتعالى نزُر أمك»
وهناك فتح باب المقبرة الحديدى
وأدخلهما القبر وتركهما وانصرف
ثم أبلغ عن اختفائهما
بحث الجميع عنهما إلى أن فقدوا الأمل
وفى ذكرى الأربعين توجهت نساء من العائلة
لزيارة قبر الضحايا فسمعن أصواتا بالداخل
فتحن المقبرة فوجدن الولد والفتاة
على قيد الحياة وفى صحة جيدة
كانت الطريقة التى يروى بها السائق
هذه الحكاية مؤثرة لدرجة أنى رفضت
أن أقاومها وظللت أستجوبه كأنه كان شاهدا
، سألته كيف كانوا يأكلون فقال:
قالت الطفلة للمذيعة إن الأم كانت تصحو
من نومها لترضع شقيقها ثم تنام،
أما هى شخصيا فقالت لها إن الحديقة
التى حبسهما فيها العم
كانت ذاخرة بالفاكهة والطعام من كل نوع
قلت له: وأنت مصدق؟
فقال
البنت كانت قد سَمِنَت بالفعل بشهادة قريباتها
وكان الجميع غير مصدقين إلحاح البنت
فى رغبتها فى العودة إلى حديقة أمها من جديد
حاول أن يتذكر اسم المذيعة ليؤكد لى
صدق روايته فقلت له: ريهام؟
فبدت على وجهه ثقة العثور على دليل
يؤكد كلامه بما أننى أعرف المذيعة،
سألنى إن كنت أتابعها فقلت له:
لا والله أنا باتابع يسرى فودة.. بتحبه؟
فابتسم لى لى بكل خجل وأدب قائلا:
«لا والله ماعرفوش»