النادي
بقلم سعيد سالم
---------------------------
ــ إذا أردت أن تعمل شيئا صحيحا فدع غيرك يعمله لك؟
تماسكت بصعوبة حتي لا أنفجر في الضحك
وأنا أتبادل النظر مع الجالسين لدي استماعنا إلي نصيحته الخطيرة..
.المهم أنه يقولها بجدية شديدة ونبرات هامسة كمن يخشي علي سره المقدس من الذيوع.
عرفته ضمن شلة النادي الدائمة التغير بالنقصان والزيادة
تبعا لانسحاب البعض وقدوم البعض الآخر,
فالتجانس الدائم بين مجموعة متكاملة من الرجال والنساء
يكاد يكون مستحيلا بحكم التجربة,
وقلما تجد مكانا مثل النادي
يحفل بمثل هذا الخليط المتناقض من المستويات الاجتماعية والثقافية والاقتصادية,
ابتداء من رئيس النادي رجل الأعمال الشهير حسن تامر,
وانتهاء بالمهندس الزراعي صفوت حمودة
صاحب النصيحة الخطيرة والدخل المحدود في الماضي
كما ان النادي يمثل فئة اجتماعية متجانسة علي نحو ما,
ولكن تناقس رؤساء النادي علي جلب الاصوات
دفع إلي إعطاء العضوية لشركات كاملة
جاءت إلي النادي بنوعيات من البشر لا حصر لتباينها الثقافي والاجتماعي.
في بداية الأمر
كان قدومه إلي الشلة متقطعا لارتباطه بقدرته علي التزويغ من عمله حسبما تسمح الظروف,
وكنت أستاء لأمر رجل تجاوز الأربعين
يرتضي لنفسه مثل هذا الموقف المهين من مهنته ووظيفته واحترامه لنفسه,
ولكني لم أسمح لهذه الملاحظة بأن تنتقص كثيرا من قدره في نظري,
فربما كان ذا حسنات أخري لم تشأ الظروف أن اكتشفها فيه,
وعلي أية حال فضريبة الفراغ فادحة
ولا مهرب من سدادها بالمزيد من الصبر والقدرة علي تجاوز الصغائر من الأمور..
بعد ذلك أصبح تزويغه من العمل روتينا يوميا يتباهي به,
وكنا نفاجأ
ــ نحن شلة المعاشات ــ
بوجوده بيننا ابتداء من الساعة العاشرة من صباح كل يوم.
أراه منهمكا في حديث هامس مع أحدهم,
وحين يلفت نظري ذلك أتبين أن موضوع الحديث تافه للغاية
حتي أنه لا يستحق ما تهدر حوله من كلمات
هذا ويتميز صاحبنا بابتسامة دائمة ــ مصنوعة ــ لا تفارق شفتيه.
كما أنه حين يتحدث إلي أحد فإن عينيه تتحركان دائريا
لاستطلاع تأثير كلماته علي الآخرين وكأنما يطلب التأييد المتواصل لما يهرف به.
ولقد استبدت بي الدهشة
أثناء انتخاب رئيس وأعضاء مجلس إدارة النادي,
حيث ترك الرجال والنساء شئون حياتهم كافة, وتفرغوا للثرثرة حول هذا الشأن الغريب..
رأيت صفوت يؤيد رئيس النادي مع مجموعة ذاكرا حسناته وأفضاله علي النادي باقتناع شديد,
ثم يعارضه ويذم في خلقه مع مجموعة أخري بنفس درجة الاقتناع,
حتي أنني لم أستطع تبين رأيه الحقيقي في ذلك الرجل..
. والأدهي أن إقامته اليومية طالت بالنادي في تلك الفترة
حتي بلغت اليوم بأكمله منذ بداية النهار حتي إغلاق أبواب النادي
كان إحساسه بنفسه طاغيا وكأنه يقوم بدور في الحياة خطير
ربما يتوقف عليه مصير البشرية بأسرها.
لاحظ صاحبنا انصرافي عنه وعزوفي عن الاستماع إلي حديثه,
فبذل جهدا كبيرا لاستمالتي دون جدوي,
فأنا لا أتمتع بقسط وافر من الصبر يتيح لي معاشرة مثل هذا النوع من البشر ولو للحظات قليلة,
خاصة حين يعتقد البعض منهم أنه العارف الأوحد بالحقيقة المطلقة..
لم ييأس وإنما انتهز فرصة جلوسي وحيدا
فدعا نفسه إلي مائدتي وراح يمتدحني بغباء شديد...
وفي النهاية اقترب من أذني هامسا كعادته:ــ
أريد أن أبوح إليك بسر قد لا أستطيع البوح به لغيركــ
لماذا؟ــ
لأنك تجيد الصمت والاستماعــ
وبماذا يفيدك البوح؟
ــ قد أستنير برأيك.
فوجئت به يروي لي تفاصيل مقززة
عن صميم علاقته الحميمية بزوجته
علي الفور تذكرت حديث زوجته عنه
في محفل يجمع بين رجال وسيدات من أصدقاء الطرفين,
كان مجمل حديثها عنه يشير إلي أنه رجل خائب بجميع المقاييس في شتي النواحي,
وساعتها لم أشعر تجاه هذه السيدة بأدني حظ من الاحترام...
ودون أن يدري تشعب منه الحديث
معبرا عن سخطه علي رئيس النادي
وعلي الساعي الذي يمسح المقاعد
والنادل الذي يقدم الطلبات
وأعضاء النادي الذين لا يتحدثون إلا بالنميمة,
ثم تمادي بطرح وجهة نظر
ــ يعتقد أنها سياسية ــ
في مشكلة فلسطين
يري فيها الحل الأمثل لكارثة
عجز الجميع عن إيجاد مخرج منها يرضي جميع الأطراف,
فاجأته بقولي له في نهاية حديثة الأشبة بغثاء السيل
:ــ طلقها
!تراجع قليلا إلي الوراء إذ شعر بتورطه, حاول أن يتكلم فلم يستطع وكأنه ابتلع لسانه..
طرقت بعنف متعمد علي كيانه:ــ طلقها يا أخي مادامت هكذا.
قال لمجرد القول مترددا وبلا اقتناع:ــ لقد فكرت في ذلك ولكني وجدت بها بعض الميزات
.ــ أنت حرــ
طبعا أنا أقدس الحرية, ولكن أرجوك ألا يعلم أحد ما قلته لك عنها.
كنت علي وشك القيام لولا أن حضر عضو آخر,
رسالته في الحياة تنحصر في الاقامة شبه الدائمة بالنادي
متجولا بين الموائد بعيون متلصصة وخطوات أشبه بقفزات الغراب,
متحدثا بفخر عن مولده بمطوبس التي أنجبت العديد من عظماء مصر
وعن أصالة عرقه ونسبه وعن أقاربه وأصهاره الذين يشغلون أرقي المناصب بالدولة,
اسمه عبد الوهاب,
وهو كثير الحمد في سجايا من يجود عليه بكوب شاي أو فنجان من القهوة,
أما الطلب الوحيد الذي يتجاسر عليه أمام النادل فهو كوب المياه,
ودائما ما كنت أسائل نفسي:
متي يجلس هذا الرجل مع زوجته وأولاده وأحفاده في المنزل؟
!يا إلهي!...
لم استطع تحمل صفوت, فكيف بصفوت وعبد الوهاب معا,
وأنا الذي أتيت إلي هنا لأريح دماغي من أعباء الحياة,
غير آمل في رفقة صديق استطيع الائتناس بصحبته في هذا النادي الكبير.
حاولت التخلص منهما بحثهما علي الذهاب لمتابعة الندوة الثقافية المنعقدة بالبهو الرئيسي
فتعلل احدهما بثقل ظل الضيف ــ وكان مثقفا كبيرا ــ
أما الآخر فقال بهدوء:ــ إن الصالة تكاد تكون فارغة من الرواد.
ــ لماذا؟ــ
لأن الضيف ليس نجما سينمائيا أو راقصة شهيرة.
ولم يكتف بذلك
وإنما راح ينتقد ضحالة الأعضاء وخواءهم الفكري
لانصرافهم عن الجوهر إلي المظهر وانسياقهم وراء شهوة مشاهدة المشاهير,
حتي أن النادي يكتظ بهم عند قدوم يسرا أو نور الشريف
بحيث لا يكون هناك متسع لقدم بين أرجائه الفسيحة
.مرت أمامنا وداد
ــ صديقة العمل القديمة ــ
وبصحبتها سيدة أخري تفوقها جمالا انتهزت الفرصة بدعوتهما إلي الجلوس معنا,
آملا التخفيف عن كاهلي من حدة الشعور بالتقزز
عرفتها بالعضوين وعرفتنا بشقيقتها
سألتني أول ما جلست عن آخر نكتة
فغمزت لها بعيني مشيرا إلي ضرورة انتظار رحيل الضيفين الثقيلين.
تحدث عبد الوهاب عن مطوبس وعن اقاربه
وأبدي صفوت وجهة نظر فلسفية في حياتنا المعاصرة
حين قال:ــ كل حاجة صح في مكانها الغلط!
وراح يجول بعينيه في وجوه الحاضرين
باحثا عن الاهتمام والمشاركة والتأييد دون جدوي,
فوداد وشقيقتها سامية لم تعبآ بوجودهما معا علي الإطلاق,
وكان حديثهما معي منصبا علي حسام زوج سامية الذي كان زميلي في الجامعة,
وحين تعمدت وداد توجيه الحديث إلي منفردا,
شعر صفوت وعبد الوهاب بالحرج لكنهما لم ينصرفا.
فجأة قامت وداد قائلة:ــ إن حسام ينتظرنا الآن في الكوفي شوب
وهو في اشتياق شديد لرؤياك.
تعمدت أن أترك صفوت وعبد الوهاب أمام النادي
يتصارعان في الظاهر علي دفع ثمن المشروبات,
وفي الباطن علي التهرب من الدفع لم يكن حسام بانتظار أحد,
وإنما دفعتهما الرغبة في إنقاذي من الضيفين إلي هذه الحيلة النسائية البارعة.
في البداية انطلقت النكات والضحكات,
وفي النهاية سالت دموع سامية التي أراها لأول مرة وهي تروي لي عن قسوة زوجها
الذي يضربها ويسرق ما لها ويعرف الكثير من النساء عليها
في تلك اللحظات الحزينة
بعينها
كان سمعي منقادا إلي حوار من نوع آخر
يدور علي المائدة المجاورة
بين شاب وفتاة
يضع كل منهما أمامه موبايل.
ــ ولكن لكل حب نهايته المعروفة.ــ
إياك أن تتكلمي عن الزواج فهذا أمر مستحيل
.ــ فبماذا نسمي علاقتنا إذن؟
ــ سميها علاقة عصرية
.فوجئت بعبد الوهاب قادما
بخطواته المتعرجة يقتحم علينا المائدة من جديد
مخاطبا السيدتين:ــ استسمحكما في دقيقة؟.
وأشار إلي بالقدوم إليه بعيدا عن المائدة
قائلا في غضب مكتوم:ــ كيف تتركني وحدي مع هذا البني آدم الممل؟
أيقنت أنه هو الذي دفع الحساب,
ولكني سألته:ــ فيم كان حديثه الممل معك؟ــ
لقد تحدث عن أمور شخصية بحتة تخص زوجته
وأوصاني ألا أبوح بالسر لأحد.ــ ياه...
وماذا قال لك عنها؟
بسرعة البرق أفصح لي عن نفس التفاصيل التي سمعتها من صفوت,
ولم أعلق حتي لا أسمح له بالبقاء طويلا معي...
بعد انصرافه عدت إلي وداد وسامية
قائلا:ــ يبدو أن كلام صفوت صحيح مائة بالمائة,
وأنه حكيم زمانهــ
كيف ؟ــ
إن كل حاجة صح في مكانها الغلط