قطع نداء الساكنة المزعجة فى الدور الثالث على بشير البواب وصلة اللعب الممتع مع أول أحفاده ساعة العصارى فتمتم فى سرِه ساخطا: ماذا تريد هذه المرأة التى لا تكف عن ملاحقتى بطلباتها؟ منذ خلت عليها الشقة بوفاة زوجها وهجرة أولادها للخارج وهى تفرغت لمناكفته، تستكثر عليه كوب الشاى يرتشفه وهو يداعب حفيده محمد الذى ينتظر زيارته الشهرية بفارغ الصبر. لو أن صحته كانت تساعده لما تردد فى السفر أسبوعيا لرؤية حفيده فى أسيوط وتخلص من مطاردة السكان خصوصا ساكنة الدور الثالث، لكنه انقطع عن عادة زيارة البلد منذ وقت طويل.
يا بشير...قالتها مدام ناهد مُلَحَنَة هذه المرة فأشفق على الجيران من صوتها الجهورى، طبع على خد محمد قبلة وضع فيها كل ما يحمله له فى قلبه من محبة، أجلسه على الدِكة الخشبية إلى جانب جدته وصعد إلى الدور الثالث.
على باب شقتها كانت تنتظره ناهد نافدة الصبر، وضعت فى يده الكاميرا الديجتال وطلبت منه أن يذهب إلى محل التصوير فى آخر الشارع ليطبع الصور على ( سى دى). ازداد غيظه منها بعد أن أخبرته بما تريد، فما هو وجه العجلة فى مثل هذا الطلب؟ كان بوسعها الانتظار نصف ساعة أو حتى ساعة، تعمق فى داخله الإحساس بأنها تتعمد مضايقته، لكن ماذا يقول؟ ما باليد حيلة.. أخذ منها الكاميرا وانصرف.
سولت لبشير نفسه أن يفتعل أى مشكلة حتى لا يقضى لناهد طلبها أو فى القليل يتلكأ فى قضائه، لم يكن يعلم أن هناك بالفعل مشكلة فى انتظاره. على بعد خطوات من العمارة استوقفه عسكرى جئ به منذ بضعة أيام لا أكثر لتنظيم المرور فى هذا الشارع الذى يختلط فيه الناس بالسيارات وسأله:
أين هو الإيصال الذى يثبت ملكيتك لهذه الكاميرا؟
لم يفهم بشير السؤال فكرره العسكرى على مسامعه، تمالك دهشته وأجاب:
إنها ليست كاميرتى بل هى خاصة بإحدى ساكنات العمارة التى أحرسها، وقد أرسلتنى ل...
لم يتركه العسكرى يكمل جملته وقاطعه قائلا:
ــ هذا من باب أولى، فمن يدرينى أنك لم تقم بسرقتها.
ــ هل تقصد أن كل من يحمل جهازا عليه أن يحتفظ بفاتورة شرائه فى جيبه؟
ــ بالضبط.
ــ فإن لم تكن معى فاتورة؟
ــ ساعتها أصادر منك هذه الكاميرا لأنك تعجز عن إثبات مصدرها.
ــ هل هذا قانون جديد؟
ــ إنه إجراء وقائى جديد.
ضرب الرجل كفا بكف، عشرون عاما وهو يحرس هذه العمارة، ويقطع هذا الشارع، ويقصد هذه المحال وما استوقفه أحد ليسأله عن إيصال أو فاتورة مع أن بكوات العمارة وهوانمها أرسلوه عشرات المرات لإصلاح أجهزتهم الكهربائية، وبعضها يفوق ثمنه قيمة الكاميرا، فلماذا تأتى الشرطة اليوم لتشكك فى ذمته وهو المواطن الصالح؟ قرر أن ينتقل من الدفاع إلى الهجوم.
يا حضرة الأمين (لم يكن أمين شرطة) إن هذا الشارع لا يمر عليه يوم واحد إلا ويشهد واقعة سرقة.
فى مرة تمهلت سيارة فاخرة إلى جوار امرأة وانتزعت حقيبتها، وفى أخرى كرر الفعلة نفسها لصان يركبان دراجة بخارية، وفى ثالثة احتك أحدهم بسيدة وكاد يخلع كتفها لأنها دافعت عن حقيبتها. وفى كل المرات أفلت اللصوص بغنائمهم، وحضرتك تطالبنى بإيصال الكاميرا!
أرأيت؟ من أجل انتشار السرقة فى شارعكم قررت الشرطة تكثيف إجراءات الأمن.
تستطيع أن تتأكد أننى لا أكذب إن كلفت نفسك وجئت معى إلى.
بدت على وجه العسكرى علامات التبرم وقال:
هل أذهب مع كل مواطن إلى حيث يقيم؟ اختر الآن وبسرعة إما الإيصال أو الكاميرا. فى ثوان فكر بشير أنه لو أخرج تليفونه المحمول من جيب سرواله واتصل بمدام ناهد لتبرئ ساحته فربما سأله العسكرى عن إيصال المحمول وساعتها تكون الكارثة، إذ كيف يثبت ملكية هذا المحمول الذى اشتراه مستعملا قبل ثلاث سنوات من محل فى شارع عبد العزيز؟
راهن بشير على أن العسكرى لن يفعل فالمحمول لا يغرى أحدا على سرقته.
سأطلب لك إذن مدام ناهد يا باشا لتتأكد أنها سلمتنى الكاميرا بنفسها.
ارتبك العسكرى قليلا، لم يكن يحب أن يتطور الموضوع فى هذا الاتجاه، لكنه حدث. قالت ناهد للعسكرى:
نعم يا شاويش أنا التى أرسلت بشير بالكاميرا لمحل التصوير.
فعلا فعلا.
سأدعه يذهب يا مدام فقط إكراما لخاطرك أنتِ.
صرخت ناهد فى أذنه حتى بلغ صوتها بشير نفسه فابتسم، الآن وجد فائدة لعصبية هذه المرأة:
لا يا سيدى ليس إكراما لخاطرى بل لأن هذه هى الحقيقة، ولأنى أنا نفسى لا أحتفظ بفواتير مشترياتي، ثم تعالى هنا إن هذا الشارع لا تتوقف فيه حوادث السرقة، و.....
مفهوم.. مفهوم يا مدام خلاص.
مع أن حدوتة بشير مع العسكرى انتهت على هذا النحو، إلا أن الرجل عاد أدراجه كسيرا، فماذا دهاه؟. لم يستكثر العسكرى عليه أن تكون الكاميرا ملكا له فقد أكد أن هذا الإجراء يسرى على كل المارة، والحق أيضا أنه لم يتطاول عليه ولا استنفر صعيديته الأصيلة، لكن الذى أحزن بشير أن العسكرى رفضته الكاميرا قبل أن يدفع غرامة عشرين جنيها لأنه وضع نفسه فى موضع اشتباه، هكذا؟!. كان الحارس المسكين يخطط لأن يدس الورقة ذات العشرين جنيها فى يد حفيده قبل أن يغادر إلى أسيوط، فقد بدأ الصغير يقبض راحته على الأشياء، ويبدو حتى أنه تعلم أن يعطى اهتماما خاصا للأوراق النقدية. الآن لن يفعل بشير ذلك فى انتظار أن يفرجها الله من باب آخر.
تهلل محمد لمرأى جده يَلُوح له عن بعد فنسى المسكين ناهد والشاويش والكاميرا وكل الأشياء السخيفة التى صادفها، وحث الخطى قدر استطاعته متجها إليه. فى اليوم التالى وفى كل الأيام التالية التقطت أذناه صرخات النساء على حقائبهن المسروقة بعد أن زادت حوادث السرقة عما قبل، والأدهى أنه سمع أن إحدى الشقق تعرضت للسرقة فى غيبة أصحابها، تمتم بشير فى داخله ساخرا: ليتهم تركوا الشارع بلا حراسة
يا بشير...قالتها مدام ناهد مُلَحَنَة هذه المرة فأشفق على الجيران من صوتها الجهورى، طبع على خد محمد قبلة وضع فيها كل ما يحمله له فى قلبه من محبة، أجلسه على الدِكة الخشبية إلى جانب جدته وصعد إلى الدور الثالث.
على باب شقتها كانت تنتظره ناهد نافدة الصبر، وضعت فى يده الكاميرا الديجتال وطلبت منه أن يذهب إلى محل التصوير فى آخر الشارع ليطبع الصور على ( سى دى). ازداد غيظه منها بعد أن أخبرته بما تريد، فما هو وجه العجلة فى مثل هذا الطلب؟ كان بوسعها الانتظار نصف ساعة أو حتى ساعة، تعمق فى داخله الإحساس بأنها تتعمد مضايقته، لكن ماذا يقول؟ ما باليد حيلة.. أخذ منها الكاميرا وانصرف.
سولت لبشير نفسه أن يفتعل أى مشكلة حتى لا يقضى لناهد طلبها أو فى القليل يتلكأ فى قضائه، لم يكن يعلم أن هناك بالفعل مشكلة فى انتظاره. على بعد خطوات من العمارة استوقفه عسكرى جئ به منذ بضعة أيام لا أكثر لتنظيم المرور فى هذا الشارع الذى يختلط فيه الناس بالسيارات وسأله:
أين هو الإيصال الذى يثبت ملكيتك لهذه الكاميرا؟
لم يفهم بشير السؤال فكرره العسكرى على مسامعه، تمالك دهشته وأجاب:
إنها ليست كاميرتى بل هى خاصة بإحدى ساكنات العمارة التى أحرسها، وقد أرسلتنى ل...
لم يتركه العسكرى يكمل جملته وقاطعه قائلا:
ــ هذا من باب أولى، فمن يدرينى أنك لم تقم بسرقتها.
ــ هل تقصد أن كل من يحمل جهازا عليه أن يحتفظ بفاتورة شرائه فى جيبه؟
ــ بالضبط.
ــ فإن لم تكن معى فاتورة؟
ــ ساعتها أصادر منك هذه الكاميرا لأنك تعجز عن إثبات مصدرها.
ــ هل هذا قانون جديد؟
ــ إنه إجراء وقائى جديد.
ضرب الرجل كفا بكف، عشرون عاما وهو يحرس هذه العمارة، ويقطع هذا الشارع، ويقصد هذه المحال وما استوقفه أحد ليسأله عن إيصال أو فاتورة مع أن بكوات العمارة وهوانمها أرسلوه عشرات المرات لإصلاح أجهزتهم الكهربائية، وبعضها يفوق ثمنه قيمة الكاميرا، فلماذا تأتى الشرطة اليوم لتشكك فى ذمته وهو المواطن الصالح؟ قرر أن ينتقل من الدفاع إلى الهجوم.
يا حضرة الأمين (لم يكن أمين شرطة) إن هذا الشارع لا يمر عليه يوم واحد إلا ويشهد واقعة سرقة.
فى مرة تمهلت سيارة فاخرة إلى جوار امرأة وانتزعت حقيبتها، وفى أخرى كرر الفعلة نفسها لصان يركبان دراجة بخارية، وفى ثالثة احتك أحدهم بسيدة وكاد يخلع كتفها لأنها دافعت عن حقيبتها. وفى كل المرات أفلت اللصوص بغنائمهم، وحضرتك تطالبنى بإيصال الكاميرا!
أرأيت؟ من أجل انتشار السرقة فى شارعكم قررت الشرطة تكثيف إجراءات الأمن.
تستطيع أن تتأكد أننى لا أكذب إن كلفت نفسك وجئت معى إلى.
بدت على وجه العسكرى علامات التبرم وقال:
هل أذهب مع كل مواطن إلى حيث يقيم؟ اختر الآن وبسرعة إما الإيصال أو الكاميرا. فى ثوان فكر بشير أنه لو أخرج تليفونه المحمول من جيب سرواله واتصل بمدام ناهد لتبرئ ساحته فربما سأله العسكرى عن إيصال المحمول وساعتها تكون الكارثة، إذ كيف يثبت ملكية هذا المحمول الذى اشتراه مستعملا قبل ثلاث سنوات من محل فى شارع عبد العزيز؟
راهن بشير على أن العسكرى لن يفعل فالمحمول لا يغرى أحدا على سرقته.
سأطلب لك إذن مدام ناهد يا باشا لتتأكد أنها سلمتنى الكاميرا بنفسها.
ارتبك العسكرى قليلا، لم يكن يحب أن يتطور الموضوع فى هذا الاتجاه، لكنه حدث. قالت ناهد للعسكرى:
نعم يا شاويش أنا التى أرسلت بشير بالكاميرا لمحل التصوير.
فعلا فعلا.
سأدعه يذهب يا مدام فقط إكراما لخاطرك أنتِ.
صرخت ناهد فى أذنه حتى بلغ صوتها بشير نفسه فابتسم، الآن وجد فائدة لعصبية هذه المرأة:
لا يا سيدى ليس إكراما لخاطرى بل لأن هذه هى الحقيقة، ولأنى أنا نفسى لا أحتفظ بفواتير مشترياتي، ثم تعالى هنا إن هذا الشارع لا تتوقف فيه حوادث السرقة، و.....
مفهوم.. مفهوم يا مدام خلاص.
مع أن حدوتة بشير مع العسكرى انتهت على هذا النحو، إلا أن الرجل عاد أدراجه كسيرا، فماذا دهاه؟. لم يستكثر العسكرى عليه أن تكون الكاميرا ملكا له فقد أكد أن هذا الإجراء يسرى على كل المارة، والحق أيضا أنه لم يتطاول عليه ولا استنفر صعيديته الأصيلة، لكن الذى أحزن بشير أن العسكرى رفضته الكاميرا قبل أن يدفع غرامة عشرين جنيها لأنه وضع نفسه فى موضع اشتباه، هكذا؟!. كان الحارس المسكين يخطط لأن يدس الورقة ذات العشرين جنيها فى يد حفيده قبل أن يغادر إلى أسيوط، فقد بدأ الصغير يقبض راحته على الأشياء، ويبدو حتى أنه تعلم أن يعطى اهتماما خاصا للأوراق النقدية. الآن لن يفعل بشير ذلك فى انتظار أن يفرجها الله من باب آخر.
تهلل محمد لمرأى جده يَلُوح له عن بعد فنسى المسكين ناهد والشاويش والكاميرا وكل الأشياء السخيفة التى صادفها، وحث الخطى قدر استطاعته متجها إليه. فى اليوم التالى وفى كل الأيام التالية التقطت أذناه صرخات النساء على حقائبهن المسروقة بعد أن زادت حوادث السرقة عما قبل، والأدهى أنه سمع أن إحدى الشقق تعرضت للسرقة فى غيبة أصحابها، تمتم بشير فى داخله ساخرا: ليتهم تركوا الشارع بلا حراسة