نريد رئيسًا يصدمنا ولا يلاطفنا

لا نملك ترف الاستسلام طويلا لنشوة السكرة التى استشعرها كثيرون بعد إعلان نتائج الانتخابات الرئاسية فى مصر، حيث لا مفر من مواجهة الفكرة، التى هى أكثر تعقيدا وتلغيما مما يتصوره البعض، وفى المقدمة منهم الرئيس محمد مرسى.

(1)

يوم الأحد الماضى (1/7) نشرت صحيفة الأهرام رسما كاريكاتوريا صور الرئيس مرسى وهو يفكر فيما عليه أن يفعله خلال المائة يوم الأولى من توليه السلطة، وفى الفضاء المحيط برأسه ظهرت عناوين تحدثت عن الأجور والبطالة والتعليم والسياحة والحريات والفن والمرور والأمن. كأنما عليه أن يتعامل مع مشكلات كل تلك القطاعات خلال المائة يوم القادمة. كما نشرت صحيفة «الشروق» تقريرا فى اليوم ذاته طالب الرئيس بحل مشكلات الغزل والنسيج خلال تلك الفترة أيضا. وقرأت تعليقا لزميلنا الأستاذ عماد الدين حسين نشر فى عدد الشروق قال فيه إن الرئيس مرسى لو نفذ نصف ما وعد به لتحولت مصر خلال فترة قصيرة إلى سنغافورة أو ماليزيا.

هذه الانطباعات من وحى الوعود التى أطلقها الدكتور مرسى بعد فوزه وإعلان تسلمه السلطة رسميا. وكلها تتحدث عن أمنيات الرجل وما يحلم بتحقيقه فى عهده. الأمر الذى رفع سقف توقعات الناس بقدر ما رفع من أسهم شعبيته التى كان بحاجة إليها، بعد حملات التشهير القاسية التى تعرض لها منذ ترشحه للرئاسة. وإذ أتفهم جيدا حقه فى أن يحلم بعدما فوجئ هو وفوجئت مصر كلها بأن الرجل الذى كان فى السجن يوم 28 يناير أصبح رئيسا للجمهورية وجلس على مكتب فرعون مصر، فى حين أن الأخير صار سجينا وأودع المستشفى للعلاج، إلا أننى أزعم أن ذلك الخطاب بحدين. فإذا حدثت المعجزة وحقق الرجل ما وعد به فقد دخل التاريخ من أوسع أبوابه. أما إذا لم يستطع فإنه سيخسر الكثير، ولن يرحمه ناقدوه ناهيك عن المتربصين به والمتصيدين له.

ربما لاحظت أننى استخدمت كلمة «المعجزة» فى وصف نجاحه فى تحقيق ما وعد به. وقد تعمدت ذلك لأننى أزعم أن نواياه الطيبة وشوقه إلى إحداث نقلة تؤسس لانطلاق ونجاح النظام الجديد دفعاه إلى أن يسرف فى التمنى. حتى حمل نفسه بما لا يقوى على حمله، إلا إذا جاء مدد من حيث لا نحتسب وهبطت عليه المعجزة المرجوة. وتلك مراهنة إذا كانت مقبولة عند الدعاة والحالمين، فإن السياسيين يعتبرونها فخا يحذرون من الوقوع فيه.

(2)

ربما يذكر البعض أن لدى موقفا معلنا ومنشورا فى 21 فبراير الماضى حذرت فيه من إقدام الإخوان على تشكيل الحكومة، وقت إن كان ذلك خيارا مطروحا من جانبهم، وقلت آنذاك إن المجتمع ليس جاهزا لاحتمال حكومة يشكلها الإخوان، كما أن الإخوان ليسوا جاهزين لتشكيل الحكومة، حيث يصعب فى بلد بحجم مصر أن تظل الجماعة خارج المنظومة طوال أكثر من ثمانين عاما، ثم تصبح فجأة على رأس المنظومة. وقد تراجع ذلك التحفظ نسبيا حين تنافس مرشح الإخوان على الرئاسة، ثم فاز الدكتور مرسى ووعد بتشكيل حكومة ائتلافية ترأسها كفاءة وطنية من غير الإخوان. وكان تقديرى ولايزال أن الحكومة هى التى ستتحمل المسئولية التى ستكون موزعة على الجميع، بما يسمح لرئيس الجمهورية بأن ينشغل بالسياسات العليا وبتوجيه الجهاز التنفيذى دون الاستغراق فى تفصيلاته. ولذلك اعتبرت أن حمل الرئاسة فى هذه الحالة سيكون أخف، وأن نقص الخبرة السياسية أو الإدارية يمكن تعويضه بحكومة ائتلافية قوية.

ما لم أقله آنذاك أن لى رأيا متواضعا فى اشتغال أصحاب الرسالات بالعمل السياسى من خلال تشكيل الأحزاب. ذلك أن هدف الحزب هو تبنى مشروع يستهدف الوصول إلى السلطة، الذى به يتحقق المراد وبه يقاس نجاحه أو فشله. فى حين أن أصحاب الرسالات يستهدفون تغييرا للمجتمع يتجاوز كثيرا حدود السلطة. وفى حالات كثيرة فإن انخراطهم فى لعبة السلطة يفسد عليهم مشروعهم الرسالى، من حيث إنه يفتح أمامهم مجال الافتتان بالمناصب والتنافس عليها، الأمر الذى يصرفهم عن أهدافهم الدعوية والتربوية.

الخطر يصبح أشد حين تتولى الجماعة الرسالية المسئولية لكى تنفذ مشروعها الإصلاحى وهى فى قمة السلطة، فى حين أن التجارب أثبتت أهمية أن تنطلق حكومة الجماعة الرسالية من القاع إلى القمة وليس العكس. وخبرة الناشطين الإسلاميين مع هذا النهج الأخير لم تكن مبشرة أو مطمئنة. على الأقل فذلك ما تعلموه من فشل محاولات إصلاح المجتمع من القمة فى كل من إيران والسودان، وفى تجربة حركة حماس فى قطاع غزة.

(3)

طريق الرئيس محمد مرسى ليس مفروشا بالصعاب فقط، ولكنه مسكون بالألغام أيضا. ذلك أننى أزعم أن أمامه ثلاثة أنواع من المشكلات. مشكلات من داخل الساحة الإسلامية ــ ومشكلات مصدرها الطبقة السياسية ــ ومشكلات ثالثة مزمنة ومعقدة فى الواقع المصرى.

فيمات خص مشكلات الساحة الإسلامية، فإن بعضها مصدره جماعة الإخوان ذاتها. التى لم يستقر لديها بعد مبدأ الفصل بين الحزب الذى يباشر النشاط السياسى والجماعة التى تركز على المهام التربوية والدعوية. ذلك أن التداخل بين الطرفين حاصل بشكل لافت للنظر، حيث لا يكف المسئولون عن المهام الدعوية والتربوية عن الخوض فى الشأن السياسى الذى هو صلب مهمة الحزب. ورغم أن الأولين يقومون بالدور الأهم ويؤدون دور الصناعة الثقيلة عميقة التأثير وبعيدة المدى، إلا أن الدعاة لم يستطيعوا مقاومة الإغراء التليفزيونى والحضور الإعلامى. فتكلموا فيما ينبغى أن يتصدى له الآخرون، وبعضهم أضر بأكثر مما نفع وأفسد بأكثر مما أصلح.

فى الساحة تيارات أخرى يمكن أن تشكل مصادر مختلفة للضغط الذى قد لا يحتمله الرئيس مرسى. فالدائرة السلفية تتعدد فيها الأصوات التى يجتمع أغلبها حول فكرة تطبيق الشريعة بمفهومها الضيق الذى يصعب على المجتمع هضمه واحتماله فى الوقت الراهن، والعقلاء فى الدعوة السلفية أو فى حزب البناء والتنمية «الجماعة الإسلامية» يتعرضون لضغوط المزايدين الذين يمكن أن يؤدوا إلى إرباك الساحة وتعويق أى تقدم فى الاتجاه الصحيح. وذلك كله فى كفة وما تفعله عناصر حزب التحرير فى كفة أخرى. ورغم قلة أعداد هؤلاء إلا أن كلامهم عن إحياء الخلافة مثلا يمثل نوعا من السلوك العبثى الذى يصب فى مجرى الضجيج والإرباك، ناهيك عن أنه يقدم مادة مجانية للراغبين فى التشهير والتخويف والاصطياد.

مشكلات الطبقة السياسية متعددة بدورها. فأزمة الثقة بينها وبين الإخوان قائمة وبينها وبين الجماعات الإسلامية الأخرى أشد وأعمق. والمجموعات العلمانية الناشطة فى هذا الجانب التى أصرت على احتكار الصفة المدنية وضعت نفسها فى موضع التقاطع مع الإخوان، ولم تفتح بابا للتلاقى. فى ميل واضح لتكريس الاستقطاب وإشاعة الحرب الأهلية الباردة فى الساحة السياسية. وفى ظل ذلك الاستقطاب جرى تعميق الفجوة بين الطرفين من خلال الإلحاح على تكريس فكرة الإسلاموفوبيا، إضافة إلى تحريض الأقباط واستمرار الوقيعة بينهم وبين الإسلاميين، وهذه التعبئة أصابت فكرة الوفاق الوطنى فى مقتل فى مرحلة دقيقة يشكل فيها ذلك الوفاق رافعة لا غنى عنها لدفع مسيرة الثورة.

مشكلات المجتمع، التى هى الأهم والأساس، بلا حصر. ولعلنا لا نبالغ إذا قلنا إن النظام السابق عمل طوال ثلاثين عاما على تدمير خلايا العافية فيه، وتشويه جميع مؤسساته ومرافقه. حتى بدا وكأنه تحول إلى تل شاهق من الأنقاض. فخدمات التعليم والإسكان والصحة دمرت، وثروته العقارية نهبت وأرضه الزراعية لم تسلم من العدوان المستمر، وصناعته وضعت أمامها العراقيل التى كبلتها وأخرجتها من سوق المنافسة، إلى غير ذلك من التشوهات التى تتطلب سنين لإزالتها. وهو ما يعنى أن أمامنا شوطا طويلا لتحقيق أهداف الثورة، من تحقيق العدالة الاجتماعية إلى تأسيس النظام الديمقراطى الجديد.

ثمة عنصر رابع ولا أستطيع أن أسميه مشكلة فى الوقت الراهن، لكن أعتبره تحديا حتى إشعار آخر، يتمثل فى حدود وطبيعة الدور الذى سيقوم به المجلس العسكرى فى المرحلة المقبلة وإلى أى مدى سيكون ذلك الدور عبئا على رئيس الجمهورية أو عونا له. خصوصا فى ظل الظروف التى تضغط للإبقاء على دور المجلس فى الحياة السياسية، ومعروف أن بعض دعاة «الدولة المدنية» يسهمون فى تلك الضغوط!

(4)

إذا جاز لى أن ألخص ما سبق فلعلى أقول إن الهم ثقيل والرحلة شاقة وطويلة، والعبء أكبر من الرئيس محمد مرسى وأكبر من أى شخص أو فصيل بل ومن أى حكومةأيضا.

من ثم فإن التبصير بالتحديات أهم وأولى من التعلق بالأمنيات أو الإسراف فى الوعود المنوط تنفيذها بمؤسسات وأجهزة أخرى فى الدولة. لذلك تمنيت على الرئيس أن يصارح المجتمع بطبيعة وحقيقة تلك التحديات، لكى يتأهب لتحمل مسئوليته ويصبح مستعدا لدفع ضريبة التقدم المنشود، من جهده وعرق أبنائه.

ترن فى إذنى دائما كلمات الخطبة التى أعلنها رئيس الوزراء البريطانى الأسبق ونستون تشرشل، حين كلف بتشكيل الحكومة أثناء الحرب العالمية الثانية (14 مايو عام 1940)، وقال فيها إننى أعدكم بالدم والدموع والشقاء والعرق. وهى الرسالة التى كررها فى اجتماع مجلس الوزراء وفى مجلس العموم، بعد أن شكل حكومة من خمسة أشخاص، قادت مقاومة الشعب البريطانى حتى النصر.

صحيح أن التحدى فى مصر أقل جسامة، لكنه يستحق أن يصارح الشعب بمسئولياته إزاءه، ولذا تمنيت أن يقول الرئيس للشعب صراحة إنه إذا أردتم العيش والحرية والعدالة الاجتماعية حقا، فأنتم مطالبون بنبذ الخلافات والتوحد والتقشف وشد الأحزمة على البطون وبمضاعفة الإنتاج وبالتشدد فى احترام القانون. ومن جانبى فإننى أضمن لكم الدفاع عن استقلال البلد وكرامته، واحترام الحريات الخاصة والعامة، والحفاظ بمنتهى الحزم على حق المواطنة، وأن تقدم رئاسة الجمهورية النموذج فى التقشف الذى يطالب به الجميع.

إننا نريد من الرئيس أن يستنفرنا ويستنهض همتنا لا أن يدغدغ مشاعرنا، وأن يصدمنا بصراحته وبجرأته فى مواجهة التحديات لا أن يأسرنا بطيبته ورسائله العاطفية.

هذا كله عن هم الداخل، أما الخارج فلهمومه حديث آخر

جريدة الشروق
فهمى هويدى