دموع الكروان في نجع حمادي....


ذات يوم أغبر لم تنسه آمنة أبدا‏

‏ قتل خالها بالخنجر
شقيقتها هنادي‏,‏

وواراها التراب دون جنازة‏,‏ أو مأتم‏,

‏ وعرفت آمنة أن خالها فتك بأختها لأنها ارتكبت جريمة الزنا مع مهندس الري‏.
‏ ظلت آمنة طوال عمرها بعد ذلك تحتال من أجل الثأر والانتقام من الباشمهندس‏,‏

وعندما حانت اللحظة الحاسمة للثأر‏,‏ وإشفاء الغليل‏,‏

اكتشفت أنها أحبت المهندس في مشهد

من أبدع المشاهد في تاريخ السينما المصرية

مأخوذ عن رائعة طه حسين دعاء الكروان‏.‏‏

‏لم يكن من المتصور أبدا أن الواقعة التي جرت

ذات يوم مشئوم في فرشوط ستمر علي خير‏,

‏ وأنه لن يكون لها ما بعدها‏.

‏المسألة باختصار أن شابا من تجار الطيور

ممن يسرحون بين القري والبندر في فرشوط ونجع حمادي

مستخدما دراجته العادية‏,

‏ ويضع الطيور في قفصين علي جانبي العجلة الخلفية للدراجة‏,

‏ وجد نفسه فجأة في منطقة خالية من الناس وأمامه فتاة عمرها لا يزيد علي‏12‏ عاما‏,‏

ولعب الشيطان في عب صاحبنا‏,

‏ فسولت له نفسه أن يختطفها إلي حقل قريب‏,

‏ ويغتصبها بعد أن هددها بأنه سيقتلها لو فتحت فمها‏,‏

ولم يهتم هذا المجرم

أن يسأل نفسه الأسئلة البسيطة

مثل‏:‏ ما هو دين هذه البنت؟

ومن أي عائلة هي؟

وكيف سيدافع عن نفسه أمام رد فعل أسرتها الذي سيكون دمويا؟

لم يهتم بأي شيء من هذا كله‏,‏

كل ما شغل باله هو شيء واحد فقط لا ثاني له‏,‏

أن يتخلص من حالة التوتر التي داهمته لدي مشاهدته المسكينة‏.‏

فالشيطان الملعون صورها له جميلة الجميلات اللاتي يسمع عنهن من نجمات السينما‏

,‏ برغم أنها طفلة تلعب علي جانب الطريق تغطي الأتربة ثيابها‏,‏

وبالطبع عادت البنت إلي أمها باكية‏,‏ ممزقة الملابس‏,

‏ فخافت وبادرتها بلطمة وسؤال عمن فعل بها ذلك؟

فقالت لها ما جري‏,‏ فسألتها إن كانت تستطيع أن تستدل عليه‏,

‏ فأجابتها بأنها قادرة علي تمييزه من بين الناس‏,‏ وذهبتا فورا إلي السوق‏,‏

وتعرفت الضحية علي الجاني‏,‏ وأمسكت أمها بتلابيبه‏,

‏ ولم يستطع أن يفر منها بعد أن أحاط بهما الناس‏,‏

واقتادته إلي قسم الشرطة وسط صراخه بأنه بريء‏.

‏‏‏الذي جعل الموقف يغلي ويفور أنه اتضح بسرعة أن الفتاة مسلمة‏,

‏ والمجرم مسيحي‏,‏ وهكذا أصبح الموقف شديد التعقيد‏,

‏ وبالطبع انفجرت ثورة غضب أهل المجني عليها‏,‏

ولم يستطع أهل الجاني أن يتركوه وحده في هذا الظرف العصيب

برغم أنهم بينهم وبين أنفسهم

كانوا بكل يقين يلعنونه ويلعنون اليوم الذي رأي فيه وجهه المنحوس

هذه الدنيا‏.‏في الظروف المعتادة لمثل هذه الجريمة

أن المرأة التي أمسكت بالمجرم‏,‏

إما أن تقتله بيديها أخذا بشرف ابنتها الذي لوثه هذا المجرم‏,‏

أو أن أحد أشقائها أو أقاربها الرجال يفعل ذلك‏,‏

وبمجرد قتله تنتهي المشكلة كلها حتي لو كان هناك اختلاف في الدين‏,‏

فالأصل في الشرف هو الدم‏,‏

وبما أنه تم أخذ حق الدم فقد انتهت المسألة‏.

‏لكن الأم فعلت العكس تماما‏,‏

تصرفت بشكل متحضر‏,‏

فقامت بتسليم الجاني أو المتهم إلي الشرطة‏,

‏ ولاشك أن أهل المرأة قد لاموها ووبخوها علي ما فعلت‏,‏

فمن غير المعقول أن الدولة ستقبل تسليمه إلي أهل الضحية‏,

‏ لأن معني ذلك أنها تعطيه لهم لكي يقتلوه‏,‏

لذلك لم تفلح كل محاولات عائلة البنت التي استمرت أياما طويلة

لكي تنتقل حيازة المتهم إليهم‏.

‏هكذا تجمد الوضع لفترة من الوقت‏,‏

لكن بدلا من التطورات

التي أدت إلي وقوع آمنة في حب المهندس كما في فيلم دعاء الكروان‏,

‏ بحيث انه عندما حانت لحظة الانتقام

لم تقتله وأخذت تبكي وتقول له‏:‏ أنا بأكرهك‏..‏

وما كنتش عارفة إن السلاح اللي باصطادك بيه ها يصيدني‏.

‏بدلا من هذا انغلق صدر الأهالي

في نجع حمادي وفرشوط من أسرة البنت علي حجم من الكراهية

لا يفلح أي شئ ولا مرور الأيام في مداواته‏,

‏ وهكذا انفجر الموقف في يوم عيد الميلاد‏,

‏ فقد كظم الأهالي المسلمون غيظهم في صدورهم بعد حادثة الاغتصاب‏,‏

وظلوا يتحينون اللحظة التي يثأرون فيها لشرفهم‏,‏

فعلوا ذلك برغم علمهم أن الجاني القذر مغتصب الطفلة البريئة داخل السجن‏,‏

وأن الموجودين خارجه أبرياء تماما من ذنب الطفلة‏,‏

وهكذا فتحوا نيرانهم وقتلوا

من تصادف وجودهم من جماعة الجاني المجرم في يوم العيد أمام المطرانية

‏,‏ كل هذا اعتقادا منهم بأن دم هؤلاء الأبرياء

يمكن أن يكون بديلا مؤقتا لدم المجرم الأصلي إلي حين خروجه من السجن‏.

‏الحادث كله تكشف ملابساته
عن مدي التخلف الثقافي والتعليمي في هذه المنطقة من مصر‏.

‏ تصوروا أن هذه المنطقة لا تعترف بشيء اسمه الدولة‏,

‏ وبأن فيها قضاء وشرطة ونيابة‏,

‏ وأن كل هذه الهيئات وظيفتها هي رد الحقوق لأصحابها‏,‏

ومعاقبة الجناة‏,‏ وردعهم‏,‏ وإلزامهم بضرورة

احترام النظام العام‏,‏ والقانون‏,‏ والعرف‏,‏ والتقاليد‏.‏

لقد ثبت أن هؤلاء الناس

‏(‏ أقصد أهالينا في نجع حمادي‏,‏ وربما في كل أرياف مصر‏)‏

لا يعرفون إلا أن يأخذ الواحد منهم حقه بيده‏,‏

أو بيد أسرته‏,‏ أو عائلته‏,‏ أو قبيلته‏,‏

فهي التي تحميه وهي ولية دمه‏,

‏ لذلك فحياته كلها فداء لها‏.

‏وهذا الكلام يبين عمق الهوة التي تفصل بين الصحف الصادرة في القاهرة

وأهالينا في القري والنجوع‏,

‏ وبصراحة من منكم

يعتقد أن أيا من هؤلاء الذين أطلقوا النار علي المسيحيين المحتفلين

بالعيد يعرف أي شيء

عن المواطنة‏,‏

وحقوق الإنسان‏,

‏ وحرية الرأي‏,‏

وحرية الاعتقاد‏,

‏ وعن أن المسئولية الجنائية فردية؟

من منهم يعرف أي شيء عن الديمقراطية

وتداول السلطة؟

وعن العولمة‏,‏ والتغير المناخي؟

وعن مستقبل مصر عام‏2020‏ ؟‏

الاهرام 10-1-2010

بقلم: حازم عبدالرحمن.