قصة من النوبة



عناقيد الأسي

بقلم: حسن نور
لما جاءوا إلي المدينة الكبيرة مرغمين‏,

‏ دخلوها بقلوب واجفة‏,‏

منفطرة ألما علي فراق أحبة لم يعتادوا فراقهم‏.‏ فعاشوا عذابات هذا الفراق الذي زاد من حدته أنهم وجدوا تلك المدينة بلا قلب‏,‏

ولا أوردة ولا عروق تمدها بالدم‏.‏

انتزعوا من حضن أمهم الأرض الراقدة علي ضفتي مجري النهر القديم الآتي مأوه من ذلك الدفق الجنوبي البكر‏,‏ قاطعا رحلته الطويلة من خلاله جاريا‏,‏ مرحا‏,‏ لعوبا‏,‏ محملا ببذور الحياة التي يستخلصها من نحت الجبال الهائلة‏,‏ الراقدة هناك في الجنوب البعيد‏,‏ مارة بكل القري والنجوع الممتدة بطول سواحله‏,‏ فتنظره في حب ورهبة‏,‏ فينثني إلي الروافد والخيران‏,‏ ومنها إلي رحم أراضيها العطشي‏,‏ فترتوي حتي الامتلاء‏,‏ تتسرب ذراتها في كل أجزائها فتثقلها‏,‏ تختلط بالحب المبذور لتفجره بساطا أخضر سندسيا‏,‏ ينبثق منه سيقان هشة لاتلبث أن تغلظ وتقوي لتقدر علي حمل أكمام تتطلع إلي قرص الشمس وترتوي من حرارته لتنفجر عن الثمار المختلف ألوانه‏,‏ فتمتلئ قلوب النجع فرحا‏,‏ سرعان مايتبدل بالآمال الحلوة عندما تلتقط أعينهم سباطات النخل الحبلي بأوائل البلح الأخضر وترتسم الفرحة علي صفحات الوجوه‏,‏ ويخلدونها في أسماء مواليدهم‏:‏ النيل بحر‏,‏ آمنة‏(‏ أمن‏),‏ أعترافا منهم بجمائل النهر وتظل أعينهم معلقة بالسباطات المشرئبة الي قرص الشمس لترتوي من حرارته وتبدل أثواب بلحها بردية بنية غامقة‏,‏ فتجري أمهات الشباب الي دور الفتيات اللائي اشرأبت صدورهن وارتوت عيدانهن بمياه الشباب وامتلأت‏,‏ يطلبنهن لأبنائهن‏.‏هكذا دارت بهم ساقية الأيام حلوة‏,‏ هادئة‏,‏ ندية ـ تملأ قواديسها ماء عذبا‏,‏ تروي به عروقهم‏,‏ تحوله الي دم يسري في أجسادهم‏,‏ فيسري فيها الدفء‏..‏ تلهج ألسنتهم بالحمد لله‏,‏ وتنطبق الأجفان فوق العيون وتروح في نوم هانئ‏,‏ لم تكن الأرض مانحة الخير‏,‏ ولا الماء الآتي من بعيد‏,‏ والبساط الأخضر الذي يكسو الأرض‏,‏ ولا العراجين الحبلي بالبلح وحدها مبعث فرحهم‏,‏ ولكنه الحب الذي يملأ جوانحهم‏,‏ وارتباطهم الحميم بعضهم ببعض وصلات الأرحام وأبواب الدور المواربة أبدا‏.‏تلك كانت حياتهم هناك في قراهم البعيدة التي احتضنت صرختهم الأولي اثر انفلاتهم من ظلمات الأرحام الي رحابها الواسعة‏.‏سكنتها قلوبهم فلم يتطلعوا لغيرها‏,‏ ولم يدر بخلدهم أن يغادروها الي غيرها‏,‏ أبدا‏,‏ حتي صحوا ذات يوم علي مياه النهر تطفو لتملأ مجراه وتفيض وتنفلت‏,‏ وتجري إلي الأرض لتبتلعها والأشجار والنخيل‏..‏ صارت اخطبوطا بمائة ذراع‏..‏ كل ذراع تجري في اتجاه‏..‏ تقترب من الدور‏,‏ لم تبق علي شئ‏,‏ جروا إلي التلال‏..‏ اعتصموا بقممها‏..‏ بالأرض البعيدة عند سفح الجبل‏..‏ نقلوا إليها دورهم‏,‏ ثم حاولوا مع الأرض المنبسطة وراء الجبال‏,‏ لكنها أبت أن تفجر ما في باطنها‏,‏ فربما كانت عقيما‏.‏كل شئ صار أصفر‏,‏ أجرد‏,‏ شح الرزق‏,‏ فتجمعت رؤوس بعض الرجال في نقطة وتهامسوا‏,‏ اتفقوا علي السفر إلي المدينة الكبيرة‏..‏ دخلوها ليلا‏,‏ فراحت أعينهم تجوس خلال السماء‏,‏ باحثة عن قمرها‏,‏ عن النجوم التي طالما اهتدوا بها في الظلمات وهم ينتقلون من نجع إلي آخر‏..‏ عن النجمة الكبيرة الوحيدة الرابضة أبدا جهة الشرق‏.‏ تعبت أعينهم ورجعت خائبة‏,‏ وأحسوا بإبر البرد تنغرس في أجسادهم التي أضناها طول السفر‏,‏ فتداخلوا في بعضهم يلتمسون الدفء داخل غرف مقبضة؟‏,‏ متراصة في حواري ثعبانية ضيقة‏.‏ثم توالي مجيئهم تباعا من هناك‏..‏ تنوء كواهلهم بهم العيش‏,‏ فيركبون ظهور الصعاب ويجيئون‏..‏ يتجمعون في الغرف المقبضة ثم يتفرقون ركضا وراء لقمة العيش‏..‏ لفتهم المدينة في طياتها وهم يجرون وراء قرش مراوغ‏,‏ يبتغون اللحاق به ليرسلوه لناسهم هناك‏,‏ يسكنون به ألم الجوع الكافر‏,‏ يبعثون بها وأشواقهم الحري لهم‏,‏ ثم ينتظرون في قلق رسائلهم‏.‏‏***‏تبدو البوستة من بعيد نقطة سوداء صغيرة في قلب الأفق‏,‏ تلتقطها لهفتهم علي حبات القلوب الذين ابتلعتهم المدينة الكبيرة‏.‏ يتصاعد دخانها من مدخنتها العالية السوداء‏..‏ يتناثر علي سطح السماء ليلطخ ثوبها الأزرق ليبدو رماديا مقبضا‏,‏ تظل أعينهم معلقة بها وهي أخذه في الاقتراب ببطء شديد‏:‏ـ يا لها من باخرة كسوليبدو لي أنها أبطأ من كل مرة؟هل تعتقد أنها ستصل اليومـ أبداـ يخال الي أنها تعود للوراءأسرع يا عوااض‏..‏ يا أيها الملاح العجوزهكذا انطلقت حنجرة همد كنوت لما تملك منه الشوق الي أحبة طال غيابهمنظروه في دهشة‏,‏ وكأنهم يقولون له‏:‏ وإني للملاح الشيخ أن يسمعك وبينكما تلك المسافة الهائلة‏..‏؟فوجد نفسه يقول‏:‏ لم أقدر علي الاحتمال أكثر من ذلكغشيهم الصمت فتركوا لاخيلتهم العنان‏..‏ تلقوا رسائلهم المطولة وطرودهم التي تحتوي من خيرات الله الكثير‏,‏ تجري الأعين فوق السطور‏.‏ فانتشر الصمت‏:‏ لم يجرؤ أحد أن ينبس بهمسة حتي لايجرح هيبته‏,‏ فبدوا ككتلة صماء فوق رمال المرفأ‏.‏اقتربت فأرسلت صفيرا عاليا‏,‏ خلخل الهواء وأفزع عصافير اهتزت بهم فروع الأشجار القريبة‏..‏ جري الصبية فوق الصقالات التي ألقي بها البحارة علي أرض المرساة‏,‏ وأرسل الكبار أعينهم يتابعونهم‏..‏ لا يتركونهم إلا وهم راجعون‏,‏ يتقافزون فوق الصقالات حاملين طردوا أو قابضين علي عدة رسائل‏.‏حملت نسمات الغروب عطر الأحباب الغائبين‏..‏ رفت القلوب فرحة‏,‏ وأنفلتت زغرودة طويلة من فم سيدة صغيرة تقضي ليلها تفكر في زوجها الغائب هناك‏,‏ لما لوح لها صبي برسالة في يده‏,‏ تلتها زغاريد كثيرة ملأت سماء النجع‏..‏ أمام الدور جلسوا مفترشين الرمال‏..‏ فضوا الرسائل يقراونها‏..‏ سلامنا وأشواقنا الحارة لأحبائنا‏...‏ كا أحبائنا في النجعآشة سلوم وعلوب وسبيلة وضيفية والعم غبدون وسليمان رحمه وولده حسين وفضل الكريم وزهرة وبحرية ووسيلة وكرم الله وحسين برسي ومسكة وعوض تبيد و‏..‏ ووفي أحد الدور تلتفت أفراد الأسرة حول طرد‏,‏ تفض غطاءه وتفرغ ما فيه تمتد يد الجدة لتوزع محتواه بالعدل في أكوام هذا لبشير حسين وهذا لبحر بشير و‏...‏ و‏***‏هكذا سارت بهم أيامهم‏,‏ انتظار يليه انتظار‏,‏ وفرح يتناثر في بيوت النجع طوال الأيام السبعة‏,‏ يتجدد بمجئ البوستة ورسوها قبالة الموردة‏..‏ لكن هذا الأسبوع مر بطيئا‏..‏ مملا‏..‏ طويلا مثل ليالي الشتاء الطويلة الباردة‏,‏ فانقبضت القلوب‏,‏ وراحت الأعين تمسح صفحات السماء كأنها تبحث عن شئ لانعرف كنههـ ايه آشا‏..‏ أراك ساكنة لاتتكلمين‏..!!‏ـ ما في سبب‏,‏ لكنني أشعر بشئ يجثم فوق صدري يختفي‏.‏ـ سبحان الله نفس الإحساس يأخذ بخناقي‏.‏‏***‏كعادتهم تجمعوا عند المرفأ‏..‏ كاد صبرهم ينفد من طول الانتظار لأسبوع تباطأت إيامه‏..‏ دفعتهم لهفتهم للمجئ في الصباح الباكر علي الرغم من تأكدهم أن البوسته لاتجئ قبل أن ينداح صوت المؤذن معلنا دخول وقت العصر‏..‏ كانت الأعين زائغة لاتنظر الي شئ‏,‏ والشفاه مزمومة‏,‏ فران الصمت‏..‏ تجرأ أحدهم وخدش هيبته لما قال‏:‏ وحدوا اللا اااهتسرب الدخان الذي أطلقته مدخنة البوستة إلي الصدور فانتشر السعال‏,‏ وأغرورقت الأعين بالدمع وغامت المرائي‏.‏ـ تري هل حدث شئ هناك؟ـ قلبي يحدثني بذلكـ لاتسبقوا الأحداث‏,‏ الأن يجئ البوستة ونعرف كل شئ‏.‏ـ ربما يستر‏***‏تجمعوا وقلوبهم مفعمة بالحزن علي موته تساءلوا‏:‏ـ أين ندفنه ولا مقابر لنا هنا‏..‏؟ـ آآه‏..‏ لم نعمل حسابا لمثل هذا الحدث‏.‏ـ كيف فاتنا ذلك‏..‏؟ـ دعونا نفكر في أمر دفنه الآن‏.‏ـ فلندفنه هناك في مقابرنااتسعت حدقات الأعين دهشة‏,‏ فتساءل‏:‏ هل عندكم حل آخر‏..‏؟ـ ومن يسافر مع جثته؟ـ دهب ابن عمهـ وزميله في السكنكان غارقا في حزنه‏,‏ لكنه تماسك‏..‏ قال‏:‏ أنا أولي الناس به‏.‏سألوه‏:‏ وعملك‏..‏؟قال‏:‏ وهل عملي أولي من دمي‏..‏؟زحفت البوستة إلي المرفأ في صمت‏..‏ لم تهدر دواليبها‏,‏ ولم تطلق صفيرها‏..‏ كان الحزن يغلف وجوه بحارتها وهم يرمون أطراف الصقالات الي المرفأ‏..‏ منعوا الصبية من ارتقائها‏..‏قال العم عواض للرجال‏..‏ فليجئ اثنان منكمشقت الصرخات صدر الفراغ لما جاء الرجلان يحملان جثتهأحاطوا بابن عمه يسألونه‏:‏ ايه يادهب‏..‏ ماذا جري لابن عمك‏..‏؟السؤال الملتاع يجري علي الألسنة‏,‏ والاحزان تمور في القلب‏,‏ لم يحتملوه فأطلقوا صراخا ارتقي سماء النجع‏..‏ حملته الرياح وألقته الي النجوع المحيطة والقري المجاورة‏..‏ المحرقة والدكة و‏..‏ في المساء كان ناسها في النجع‏..‏ كانوا كثيرين‏,‏ ركبوا الصعاب وسلكوا الدروب الوعرة وصعدوا التلال وجاءوا تجمعوا عند المرفأ‏..‏ رأوه غارقا في حزنه‏,‏ غارسا عينه في ماء النهر‏,‏ يزعق المانيا حبيبي ياخوي واقلة شوقي ياخوي‏..‏ يا الفراق الطويل يا خوي‏,‏ ثم يروح يناديه‏..‏ ياارباااب‏..‏ ياخوي‏.‏فوجدوا أنفسهم يبكون ويلطمون الخدود‏,‏ والنساء يعددن رحيله المفاجئ وشبابه الذي لم يهنأ به‏.‏عدت يا حبيب من البلاد البعيدة ممدا‏..‏ مسافرا للبعيد‏..‏ أبدا لم تحس فيها براحة‏,‏ عشت فيها غريبا شريدا‏,‏ تعبا منهكا حتي نحل جسدك‏,‏ وهفت نفسك علي رؤية ناسك قبل الرحيل‏,‏ لكنك جئتنا جسدا بعد أن صعدت روحك للأبد‏,‏ فأني يتحقق لك ماتمنيت‏..‏؟إهي إهي إهيثم تردد أمه من بين دموعها ولوعتها‏:‏ انتظرت في شوق مجيئك‏,‏ سيفك في يمنيك‏,‏ عروسك في شمالك‏,‏ فماذا أصابك‏..‏ ماذا أصابك‏..‏؟التفت حولها النسوة وأخذن رأسها إلي رؤوسهن ورحن ينهنهن‏.‏‏***‏ارتدي قرص الشمس لباسه القرمزي‏,‏ المحلي بالأبيض والرمادي‏,‏ اعتلي هامات الجبال الرواسي في الغرب‏,‏ قبل أن يسقط وراءها حيث مثواه الأبدي‏..‏ قبل أن يختفي تماما جاء شرفي رفيق صباه‏,‏ ممسكا بمفتاح كبير‏,‏ وهو يقول لأحبائه الملتقين حول جثمانه‏:‏ خذوا مفتاح مقابرنا‏..‏ وسدوا جثمانه بالراحة‏,‏ واتركوه ينااام‏..‏ لاتزعجوه فإنه لم ينم سنين طويلة‏..‏ مسكين طول عمره كان في شقاء فدعوه يرتاح‏..‏ دعوه يرقال دهب‏:‏ لكن ارباب أوصاني قبل أن تفيض روحه نهنه أخوه الأصغر قائلا‏:‏ طول عمره يعطي‏..‏ أبدا ماطلب شيئا لنفسهقال دهب مصرا‏:‏ كان طلبه الوحيد أن ندفنه مع أبيه في الغرب‏,‏ ثم انزوي في ركن بعيد‏,‏ منفردا بحزنه‏,‏ معتمدا وجهه بكفيه‏..‏ يبكي في صمت‏..‏ سفحت عيناه الدمع‏,,‏ ملأت كفيه‏..‏ سألوه ليخلصوه من حزنه‏:‏ لكنك لم تقل لنا ماحدث لابن عمك هناك في بلاد الغربة‏.‏نظرهم طويلا دون أن تنفرج شفتاه‏,‏ فألحوا عليه‏..‏ نريد أن نعرف ماذا حدث له هناك‏,‏ هو الذي لم يشك من شئ هنا‏.‏أحس بريقه متخشبا فشرب الدمع المتجمع في كفيه‏..‏ بلله ثم قال‏:‏ لما صحي من نومه قال لي قبل أن يشرب شاي الصباح‏..‏ جاءني أبي‏(‏ أمباب‏)‏ ليلا‏,‏ راكبا حصانه الأبيض‏,‏ لابسا جلبابه الأبيض‏,‏ متلفعا بشاله الأبيض‏,‏ وحول رأسه عمامته البيضاء‏,‏ فلما رآني من فوق صهوة حصانه الرامح في قلب الريح رمي لي شاله الأبيض وما تكلم‏..‏ أخذته ولففته عمامة زين حولي رأسي‏,‏ فلما ركض حصانة عائدا ورآني ملأت البسمة صفحة وجهه وقال متفاخرا الآن صرت ابن أبيك فضل الكريم وليس ابن أمك فانا بشير‏..‏ تعال‏..‏ تعال يا ولدي‏..‏ اقترب مني لأسر إليك بأسرار قبائلنا بعد أن صرت رجلا يعتمد عليك‏..‏ البس جلبابك الأبيض‏,‏ وارشق خنجرك في زندك‏,‏ واقبض علي رقبة كرباجك وتعال إلي ما وراء هذه الجبال‏..‏ إني في انتظارك‏.‏لمعت عيناه وتهدج صوته‏,‏ ثم راح صدره يعلو ويهبط‏..‏ خفت عليه وطلبت منه أن يسكت‏,‏ قلت‏:‏ أنت مجهد‏..‏ هل تشعر بشئ‏..‏ استرح‏..‏ أرجوك استرح الأن سأسمعك بعد قليل‏.‏قال لا يا ابن العم‏..‏ إنها فرحة اللقاء بأبي‏,‏ والآن يجب أن ألبي نداءه‏..‏ أن اذهب اليه الآن‏..‏ الآن وليس بعد ذلك‏,‏ وهب واقفا‏,‏ وقبل أن ينفلت خارجا التفت نحوي وقال‏:‏ تعال لتري عمك في أبهي زينته‏..‏ لم تره من قبل علي تلك الهيئة الجميلة‏,‏ عاد شابا في العشرين‏,‏ هل رأيته في العشرين من عمره‏..‏ سوف أذهب إليه لأهنأ بقربه الذي حرمت منه‏,‏ تعال معي أنظره وارجع‏,‏ واتركني معه‏.‏كان البراق باجنحته الخضراء الكثيرة وقوائمه الطويلة ووجه البدري ينتظرنا عند باب البيت‏,‏ اعتلا ارباب ظهر بقفزة واحدة عالية‏,‏ واردفني وراءه‏,‏ ثم أشار الي البراق أن انطلق‏,‏ فضرب الفضاء بأجنحته الكثيرة فارتقي السحب‏,‏ ثم خطأ في الهواء خطوة بقوائمه الطويلة أعقبها بأخري‏,‏ فصرنا فوق الخزان‏.‏ثم تلها بثالثة فرأينا بيوت نجعنا تحتنا‏..‏ صحت فرحا‏:‏ ها هي يا أرباب الجزيرة‏(‏ آرتي‏),‏ وبيوت قبائلنا هناك متناثرة‏,‏ بيوت البشيراب والعلياب‏,‏ وهاهي بيوت الحداب واليونساب‏..‏ ياااهصاح أرباب في البراق‏:‏ إنزل‏,‏ فضم أجنحته الي جسده المهول واستقامت أرجله عمودية إلي أسفل‏,‏ وظل يهبط إلي أن لامست أرجله الأرض‏,‏ فقفز أرباب نازلا وهو يصيح فرحا‏:‏ اللاااه ياحبيبتي يابلدي‏,‏ يا أحسن بلاد الدنيا يا بلدي‏..‏ أنظر كم صارت جميلة بعد أن ذهب عنها شبح الغرق‏..‏ أنظر إلي أعلي النخيل‏..‏ إلي سباطات البلح الحبلي بالسكوتي والابريمي‏..‏ صار وجهه شاحبا‏,‏ وصوته يخرج من فيه مرتعشا‏.‏ قلت له‏:‏ أهدأ أرجوك‏..‏ أنا خائف عليكلكنه أبدا لم ينته‏..‏ زعق صائحا وهو يركض‏,‏ وذراعاه مبسوطتان أمام ها هو أبي‏..‏ أمباب فضل الكريم‏..‏ تعال أحضنك يا أبي‏,‏ لكنه قبل أن يلحق به كانت المياه قد هاجت‏,‏ ضربت الجسور والحواجز‏,‏ ولفته أذرعتها الطويلة الهائلة وطوته دواماته‏..‏ أحس بحذر لذيذ يسري في كيانه‏,‏ فأغمض عينيه‏,‏ وارتاح لحضن المياه‏,‏ فترك له جسده‏,‏ خفت عليه من غدرها‏,‏ فرميت بنفسي وأنا أصيح عليه لا‏..‏ إنها مخادعة‏..‏ مختاله‏..‏ لاتركن إليها يا أرباب‏..‏ لا تصدقها ياخوي‏..‏عد يا أرباااب‏,‏ عد يا أرباااب هووويردد الفضاء حولنا صدي صوته‏:‏ هووي ودهب هووي‏,‏ ثم قال في وهن‏:‏ نادي علي أبي بصوتك القوي قبل أن‏..‏صرخت وأنا أضمه إلي صدري بقوة قائلا‏:‏ لا‏...‏ لا يا أرباب‏..‏ يجب أن تعيش‏..‏ لاتتركني وحدي‏..‏ لاتترلكنه أصر وانسحب‏..‏ تسربت روحه من جسده الذي كان بين ذراعي تقبضانه في قوة‏..‏ نظرت الي عينيه المرشوقتين في الفضاء فأدركت أنني أقبض الريح‏,‏ ولم أدر إلا ورفاقه حول الدار يرشقون أعينهم في عيني تسائلها‏:‏ أين صاحبك‏..‏؟ وأبحث عن لساني فلا أجده‏,‏ ولا أجد مهربا من أعينهم إلا أن أبعد عنها عيني لتلتقطا رتل الرجال والنساء يتقاطرون علي نجعنا الغارق في بحر الحزن‏.‏