الأجــازة السعـيــدة


بقلم الراحل العزيز الأستاذ عبدالوهاب مطاوع
(فى ذكراه)


أشعر برغبة شديدة في أن أروي لك تجربتي الشخصية‏,‏ عسي أن يستفيد بها غيري ممن يواجهون نفس الظروف‏,‏ التي واجهتها من قبل‏,‏ فأنا رجل متوسط العمر نشأت في أسرة متحابة ومتراحمة‏,‏ وأنهيت تعليمي العالي في سلام‏,‏

ثم رحل أبي رحمه الله عن الحياة وأورثني عملا تجاريا صغيرا‏,‏ فآثرت التفرغ له واستقلت من وظيفتي الحكومية‏,‏ واتفقت مع أختي الوحيدة التي تشاركني ملكية هذا العمل‏,‏ علي أن أخصص لها مبلغا شهريا عادلا تنفق منه علي نفسها وتدخر بعضه لجهازها‏,‏ إلي جانب تكفلي التام بإعالة والدتنا ونفقات البيت الذي يضمنا جميعا‏,‏ وبالفعل استفادت شقيقتي من المبلغ الشهري واشترت بمشورة أمي أشياء كثيرة لجهازها‏,‏ وادخرت الجزء الأكبر للأثاث ومتطلبات الزواج‏,‏ وفي الوقت المناسب تقدم لها ابن خالتها المهندس الشاب يطلب يدها‏,‏ فرحبت هي به وسعدت أنا أكثر بتقدمه إليها‏,‏ لأننا صديقان منذ الطفولة‏,‏ وتم الاتفاق علي كل شيء‏,‏ وتعمدت ألا أرهق صديقي بالمطالب المادية الكثيرة‏,‏ وأكدت له أنني لا أريده أن يبدأ حياته مع أختي بالديون‏,‏ ولذلك قبلت منه ما معه دون زيادة‏,‏ وتكفلت مدخرات أختي خلال الأعوام السابقة بتغطية التكاليف‏,‏ وتم زفافها لابن خالتها في ليلة سعيدة‏,‏ تذكرت خلالها أبي الراحل وتمنيت لو كان قد امتد به العمر ليسعد معنا بسعادة ابنته‏,‏ وبعد أقل من عام من زواجهما أنجبت أختي ابنها البكر‏,‏ وسعدت به سعادة طاغية لولعي القديم بالأطفال‏,‏ حيث كنت دائما صديقا لأطفال العائلة‏,‏ وحثتني أمي علي الزواج بعد أن اطمأنت علي أختي واستقرت الأحوال في العمل‏,‏ وراحت تغريني بالاسراع بالزواج لكي أنجب طفلا أو طفلين يملأن علي حياتي ويشبعان لدي حنيني القديم للأطفال‏,‏ وفكرت في الأمر طويلا واستقر رأيي علي القبول‏,‏ وكنت منذ سن المراهقة معجبا بابنة عمتي واستريح إليها‏,‏ ففكرت في التقدم لها‏,‏ لكني لم أكن واثقا من مشاعرها تجاهي‏,‏ وفكرت في جس نبضها فانتهزت فرصة زيارتي مع أمي لأسرتها وأرسلت إليها رسالة بالنظرات المعبرة‏.‏ للاستفسار عن مدي استعدادها للارتباط بي‏.‏ فجاءني الرد بالنظرات المعبرة كذلك‏.‏ عن القبول ففاجأت عمتي وأمي خلال نفس الزيارة بطلب يدها‏..‏ ولم تتمالك أمي نفسها حين رحبت عمتي وابنتها بي‏,‏ واطلقت أول زغرودة لها بعد وفاة أبي‏,‏ وتمت الخطبة وتمكنت المشاعر العاطفية من قلب كل منا خلال فترة الخطبة‏,‏ حتي خيل إلي أنني كنت أكتم حبي لها منذ سنوات بعيدة‏,‏ وخيل إليها نفس الشيء وتزوجنا ورفضت أمي رفضا قاطعا أن تغادر مسكنها أو أن نقيم معها‏,‏ وأصرت علي أن يكون لي مسكن مستقل للزوجية وأن تحيا هي في شقة الأسرة مع سيدة ترعاها‏,‏ وأكدت ذلك بقولها إنها تريد أن يبقي بيت العائلة أو البيت الكبير كما نسميه‏,‏ يجمع بيننا مساء يوم الاثنين ـ وطوال نهار يوم الجمعة كل أسبوع ـ وأصبحت هذه اللقاءات هي أسعد أوقاتي حيث تجتمع زوجتي وأختي وأمي يتبادلن الحكايات والروايات والتقي بزوج أختي لنلعب الطاولة أو نتسامر ونتبادل الأخبار وألاعب ابنه البكر وابنته الوليدة وأسعد بذلك كثيرا‏.‏
ومضت بنا الحياة وترقبت أن تفاجئني زوجتي ذات يوم بالخبر السار‏,‏ الذي انتظره منذ الشهور الأولي للزواج وهو خبر حملها‏,‏ فتمضي الأيام ولا تبدو في الأفق أي بادرة تشير إليه‏,‏ وبعد عام من الزواج ازداد قلق أمي‏,‏ فاصطحبت زوجتي إلي أحد الأطباء وتم إجراء كل الفحوص اللازمة وانتهت إلي أنه ليس لديها ما يحول دون حملها وانجابها‏,‏ وأنها طبيعية تماما‏,‏ فاتجهت الظنون إلي‏,‏ وتحرجت زوجتي من أن تحدثني في الأمر‏,‏ فحدثتني عنه أمي وطلبت مني إجراء الفحوص الطبية للتأكد من قدرتي علي الانجاب واهتززت بعض الشيء حين سمعت ذلك وتساءلت‏:‏ هل يمكن حقا أن أكون عقيما وأنا العاشق القديم لكل أطفال العائلة؟ وخفت بالفعل من مواجهة الاختبار وترددت عدة أسابيع ثم حزمت أمري وعرضت نفسي علي الأطباء فإذا بالفحوص تؤكد أنني سليم تماما وقادر علي الانجاب‏..‏ فلماذا إذن لم نسعد بإنجاب الأطفال وقد مر علي الزواج أكثر من عامين وتعلقت بالأمل في أن تحمل زوجتي ذات يوم الخبر السعيد‏.‏
وعشت علي هذا الأمل‏,‏ أؤدي عملي وأرعي أمي وزوجتي وأختي‏..‏ وافرغ حنيني للأطفال في طفلي اختي وأطفال الأسرة واهتم بعملي حتي نما واتسع والحمد لله‏,‏ وأصبحت الحياة جميلة من كل النواحي‏,‏ ماعدا هذه الناحية المفقودة وهي الإنجاب‏.‏
ويوما بعد يوم تعمقت العلاقة بيني وبين زوجتي حتي أصبحت تسري في دمي ولا استطيع الحياة بدونها‏,‏ وأسعدني كثيرا حب أمي وأختي لها‏,‏ وتمتعها بمكانة كبيرة لديهما‏,‏ لطيبة قلبها وكرم أخلاقها وتدينها وحرصها علي مودة أهلي‏,‏ لكن لعنة الله علي وساوس الشيطان‏,‏ التي راحت تلح علي كل يوم بأن كل ذلك لا قيمة له بدون إنجاب الأطفال‏,‏ وأنني مادمت سليما من الناحية الصحية وقادرا علي الإنجاب فلابد أن يكون العيب في زوجتي‏,‏ ولابد أن تكون الفحوص التي أجرتها خاطئة أو ليست دقيقة‏,‏ ولم تكن تجارب أطفال الأنابيب قد شاعت في ذلك الوقت‏,‏ فأوعزت لزوجتي أن تعيد فحص نفسها‏,‏ واكتأبت هي للطلب‏..‏ لإدراكها ما وراءه واستجابت لي وأجرت المزيد من الفحوص وتلقت العلاج بلا جدوي‏.‏
ووجدت نفسي قد تقدم بي العمر ولم أنجب بعد فبدأت وبالرغم من حبي الكبير لزوجتي أفكر في الزواج من أخري‏,‏ بغرض الإنجاب‏.‏ وسألت أهل العلم فقالوا إن الرغبة في الانجاب مبرر شرعي للزواج مرة أخري وفاتحت أمي في الأمر‏,‏ فتمزقت بين رغبتها الدفينة في أن تري حفيدا لها من صلبي وبين إشفاقها علي مشاعر زوجتي التي تحبها وتشعر نحوها بالعطف‏,‏ وفاتحت أختي وزوجها فأيدني ابن خالتي بلا تحفظ‏,‏ وترددت أختي في الموافقة‏.‏ حرصا علي مشاعر زوجتي وفضلت ألا تبدي أي رأي في المشكلة‏.‏
لكني كنت قد حزمت أمري ولم يعد يجدي التردد‏,‏ فقد مضي علي زواجي تسع سنوات وليست هناك أي بادرة للحمل‏,‏ وأصبحت المشكلة الرئيسية التي تواجهني هي كيف أفاتح زوجتي في رغبتي في الزواج من أخري بغير أن يؤثر ذلك علي حياتي معها أو أن يتأثر الحب الكبير الذي يجمعني بها وشغلني هذا الأمر أكثر من أي شيء آخر‏.‏
وكنت قد استقر رأيي علي الارتباط بسيدة مطلقة ولديها طفل عمره ثلاث سنوات‏,‏ جاءت للعمل عندي قبل شهور‏,‏ وهي سيدة من أسرة بسيطة وقد استشعرت لديها الاستعداد للارتباط بي مع استمرار زواجي الأول دون تأثر‏,‏ كما أنها قادرة علي الانجاب بدليل انجابها لطفلها خلال زواجها الذي لم يطل أكثر من عام واحد‏,‏ غير أنني لم أفاتحها في الأمر‏,‏ انتظارا للحصول أولا علي إذن زوجتي‏..‏
وألحت علي الرغبة في الانجاب وحرت كيف أفاتح زوجتي‏,‏ وكلما هممت بذلك نظرت إليها فوجدتها منكسرة وحزينة فأشفق من إيلامها‏,‏ واستشرت زوج أختي فنصحني بأن اصطحب زوجتي في اجازة إلي أحد المصايف أو المشاتي وأن أمضي معها وقتا سعيدا وخلال رحلة العودة أفاتحها في الأمر وهي مازالت منتشية بذكريات الاجازة السعيدة‏,‏ وفعلت ذلك بالفعل واصطحبت زوجتي إلي الفيوم وقضينا ثلاث ليال في منتهي السعادة وزرنا شلالات وادي الريان‏,‏ وسواقي الفيوم القديمة وعين السيلين وسعدت زوجتي بالاجازة سعادة كبيرة وأنا أرقبها خفية وأشفق عليها مما ينتظرها‏..‏ وركبنا السيارة عائدين إلي القاهرة وأنا أتحين الفرصة لكي أفاتحها في الموضوع وأفكر في الكلمات التي أعبر بها عما أريد‏,‏ وكنا قد قطعنا نصف الطريق حين غالبت ترددي والتفت إليها لأصارحها بما أريد‏,‏ فإذا بي أراها وعلامات الامتعاض والمرض بادية علي وجهها وسألتها منزعجا عما بها‏..‏ فأشارت إلي أن أتوقف بالسيارة فوقفت علي جانب الطريق فإذا بها تفتح باب السيارة وتفرغ معدتها علي الأرض وتبدو في غاية الإرهاق والمعاناة وسألتها هل نرجع إلي الفيوم لعرضها علي أحد الأطباء أم نسرع إلي القاهرة ليراها طبيب الأسرة‏,‏ فرغبت في العودة للقاهرة‏,‏ وقدت السيارة مسرعا وقد طارت من رأسي كل الكلمات التي أعددتها لمفاتحتها في الأمر‏,‏ وتركز خوفي في أن تكون وجبة الأسماك التي تناولناها قبل السفر فاسدة وسممت زوجتي‏,‏ وأسرعت إلي طبيب العائلة في ميدان الدقي‏,‏ ورويت له ما حدث‏.‏ ففحص زوجتي فحصا دقيقا ثم ابتسم في وجهي وقال لي‏:‏ مبروك‏,‏ زوجتك حامل في أسابيعها الأولي‏..‏ يا سبحان الله العظيم‏..‏ حامل؟ وأنا الذي هممت باستئذانها في الزواج من أجل الإنجاب؟
وشكرت الطبيب بحرارة واصطحبت زوجتي إلي طبيب أمراض النساء‏,‏ فأكد لنا بعد فحصها حملها وقال إن كل شيء طبيعي وإنها لا تحتاج إلي أي أدوية‏!‏
وهرولت إلي أمي وأسعدتها بالخبر فنصحتني بشراء عشرين كيلو جراما من اللحم وطهوها وتوزيعها علي الفقراء شكرا لله تعالي‏,‏ وابلغت أختي في نفس اليوم أن زوجتي حامل وانني لم افاتحها في الأمر‏,‏ ونفذت وصية أمي وقامت زوجتي وهي في قمة السعادة بطهو اللحم ووضعه مع الأرز في أرغفة الخبز‏,‏ وحملت الكرتونة الكبيرة التي تحوي أرغفة الخبز واللحم ووزعتها بنفسي علي كل من قابلته في الطريق من البسطاء‏..‏ وحمدت الله كثيرا علي أنني لم أتسرع بالحديث إلي زوجتي في أمر زواجي‏,‏ واستقر رأيي علي الاستغناء عن خدمات السيدة المطلقة التي تعمل معي تجنبا للاحتمالات فدفعت لها تعويضا مناسبا وأوصيت بها أحد المتعاملين معي كي تعمل عنده فوظفها بالفعل لديه‏.‏
ورحت أعد الأيام علي موعد الولادة‏,‏ حتي جاء اليوم السعيد‏,‏ وجاء إلي الوجود ابني البكر الذي لم أتردد في تسميته باسم ابي رحمة الله عليه وكأنما كانت قدرة زوجتي علي الانجاب مغلولة بالقيود وحين نزل الأمر الإلهي بفكها انطلقت بلا عقبات‏,‏ فلم يمض عام آخر حتي أنجبت لي ابني الثاني‏,‏ وشكرت ربي طويلا وقررت الاكتفاء بهاتين الهديتين اللتين هبطتا علي من السماء‏,‏ لكن زوجتي كان لها شأن آخر‏,‏ فلم يمض عام ثالث حتي كانت قد أنجبت طفلتي الجميلة الوحيدة وأصبح لدي ثلاثة أطفال خلال ثلاثة اعوام فقط‏.‏
وسبحانك ربي تهب الذكور لمن تشاء والاناث لمن تشاء وتجعل من تشاء عقيما‏..‏ وأنت القادر علي كل شيء‏..‏ تسع سنوات بلا أي بادرة للحمل دون وجود أية موانع‏..‏ ثم ثلاثة أطفال خلال ثلاث سنوات فقط لاغير‏..‏ فهل هناك دليل علي قدرة الله سبحانه وتعالي أكثر من ذلك؟‏!‏
لقد استقرت بي الحياة وأصبح أطفالي الثلاثة ينافسون أطفال أختي في إحداث الصخب والضجيج في بيت أمي في خلال لقاءاتنا المنتظمة‏,‏ والحمد لله علي نعمته‏,‏ فقد تفرغت للعمل‏..‏ وعشت هانيء البال لايشغلني سوي أسرتي وعملي فتقدم العمل واستقر ورسخت دعائمه والحمد لله ولو انني كنت قد تعجلت أمري وتزوجت من تلك السيدة المطلقة وتمزقت بينها وبين زوجتي لاضطربت حياتي‏,‏ وتأثر عملي ولربما كنت لم أنجب من الزوجة الجديدة فطلقتها وجربت حظي مع ثالثة وربما رابعة‏,‏ ومضيت في طريق الزواج والطلاق والمشكلات المترتبة علي ذلك‏.‏
وقد مضت سبع سنوات الآن علي تلك الاجازة السعيدة التي رتبتها لابلاغ زوجتي بنيتي في الزواج عليها‏,‏ وقد صارحت زوجتي بكل شيء عنها بعد انجابها الطفل الثاني فصفحت عما حدث‏,‏ ولعلك تتساءل عما دفعني بعد هذه السنوات لأن أروي لك قصتي‏,‏ وأجيبك‏,‏ بأنه قد حدث ما جعلني استعيد شريط الذكريات كله وأجدد الحمد والشكر لله العظيم أن حماني مما كنت علي وشك التورط فيه‏,‏ فقد زارني منذ أيام صديقي التاجر الذي أوصيته بالسيدة المطلقة التي كانت تعمل عندي ووظفها لديه‏,‏ ووجدته في أسوأ حال صحيا ونفسيا وماديا‏,‏ وروي لي انه تزوج تلك السيدة بعد عملها لديه ببضعة شهور سرا وأنجب منها ولدا‏,‏ واكتشفت زوجته الأولي الأمر فأصرت علي الطلاق منه وحرمته من ابنائه وشنت عليه حربا شعواء‏,‏ واقامت ضده عدة قضايا كسبتها كلها وكلفته مبالغ مالية كبيرة أثرت بالسلب علي نشاطه التجاري‏,‏ ولم ترحمه الزوجة الجديدة في محنته وضاعفت ضغطها عليه لإعلان زواجه بها وتأمين مستقبلها ومستقبل ابنه منها‏,‏ حتي ضاق بكل شيء وطلقها واراد الرجوع إلي زوجته الأولي‏,‏ ووسط لديها كثيرين فأبت عودته إلي بيت الزوجية إلا اذا كتب كل ما يملك باسمها واسماء أبنائه منها‏,‏ لتحرم ابنه من الأخري‏,‏ وهو حائر ومتخبط ولايدري ماذا يفعل لينقذ عمله من الافلاس وحياته وابناءه من الضياع والاضطراب‏,‏ وقد نصحته بأن يتوصل مع زوجته الأولي إلي حل وسط فيكتب بعض ما يملك باسماء ابنائه ويتعهد لزوجته في قسيمة الزواج الجديدة بألا يتزوج عليها مرة أخري‏,‏ وغادرني وأنا أحمد الله سبحانه وتعالي أن حماني من كل ذلك وجنبني المشكلات والاضطرابات العائلية والمادية‏,‏ وأوجه رسالتي إلي كل شاب تأخر حمل زوجته ألا يتسرع في الحكم عليها وألا يتعجل الانفصال عنها أو الزواج عليها‏,‏ وأن يصبر علي ظروفه إلي أن يأذن الله له بالانجاب أو يقضي في أمره بما فيه خيره وسعادته بإذن الله‏,‏ والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته‏.‏
‏**‏ ولكاتب هذه الرسالة أقول‏:‏ من سعادة المرء أن يكون ما اختاره له الله سبحانه وتعالي‏,‏ أفضل كثيرا مما اختاره هو لنفسه‏,‏ وأن يرضي بحسن اختيار الله له وإلا يعدل به شيئا‏..‏ وقصتك الفريدة هذه خير دليل علي ذلك‏.‏ فقد كان اختيار الله سبحانه وتعالي لك أفضل مما كنت قد فكرت فيه ودبرت أمره‏,‏ ولو لم تكن ابنا بارا بأمك وأخا عادلا رحيما لأختك‏,‏ لربما كانت السماء قد تركتك لما اخترته لنفسك‏,‏ وشهدت عن قرب آثاره ونتائجه الوخيمة‏,‏ علي حياة صديقك التاجر العائلية وعلي عمله التجاري‏..‏ فكأنما قد أراد الله سبحانه وتعالي أن يطلعك عمليا علي ما كنت تقود نفسك وحياتك إليه‏,‏ وأنت تسمع شكوي هذا الصديق مما حدث له‏,‏ أو كأنما أراد الله سبحانه وتعالي أن يقول لك من جديد إنه أرحم بعبده من نفسه التي تقوده أحيانا إلي المهالك بتطلعها إلي المفقود وتعجلها المنشود‏,‏ وفي هذا الشأن قال لنا الرسول الكريم صلوات الله وسلامه عليه ما معناه‏,‏ ان كل دعاء المؤمن مستجاب بأمر الله ما لم يعجل‏..‏ قيل له وكيف يعجل؟‏.‏
قال ما معناه‏:‏ يقول قد دعوت ودعوت ودعوت ولم يستجب لي‏,‏ فيكف عن الدعاء‏.‏
وأنت صبرت تسع سنوات علي الحرمان من الانجاب‏,‏ ولم تتعجل الزواج من أخري‏,‏ ولم تفكر في الانفصال عن زوجتك‏..‏ فكان حقا علي الله سبحانه وتعالي أن يجنبك الاضطرابات العائلية‏,‏ بل انه سبحانه وتعالي‏,‏ قد ترفق بك أكثر فأرسل إليك إشارة البشري بالحمل قبل أن تتورط في مفاتحة زوجتك في أمر زواجك خلال رحلة العودة‏,‏ لكيلا تفسد عليها فرحة الحمل الصافية من الأكدار‏,‏ ولو أنك كنت قد تسرعت في مصارحتها لتكدرت فرحتها بحملها بعد طول الترقب والانتظار بتفكيرك في الزواج من غيرها‏..‏ ولتأثرت علاقتك بها ولو لفترة مؤقتة‏,‏ ولاهتزت ثقتها في حبك الكبير لها‏,‏ أما نعمته الجليلة عليك فقد تمثلت في أن حماك ربك من المضي علي طريق الزواج والطلاق والاضطراب العائلي الذي كاد يعصف بتجارة صديقك التاجر‏,‏ وقد كنت حكيما حين أبعدتها عن عملك وحياتك بعد أن تلقيت اشارة السماء بالاستجابة لدعائك لربك بأن ينعم عليك بالانجاب‏,‏ وكان إبعادها من مجال البصر والتعامل اليومي معا ضروريا بالفعل‏,‏ بعد أن فكرت فيها بالفعل كأنثي وأردت الارتباط بها‏,‏ إذ لم يكن من المستبعد أن تتجدد الرغبة فيها في أية مرحلة‏..‏ أو أن تسعي هي بعد أن استشعرت بطريقة أو بأخري رغبتك فيها‏,‏ لإغرائك بالارتباط بها في السر أو في العلن‏,‏ كما فعلت مع صديقك‏,‏ فأخذت بالأحوط واستهديت بالحكمة القديمة التي تقول‏:‏ خير لك ألا تبدأ ولاتعرف كيف تنتهي‏,‏ فنجوت من كل ما يكابده الآن صديقك التاجر الذي بدأ ولم يعرف كيف ينتهي‏..‏
ولعل ما حدث لك يذكرنا من جديد بالحديث الشريف الذي يقول لنا في مضمونه أن كل أمر المؤمن خير‏,‏ إن نالته سراء شكر فكان خيرا له‏,‏ وان اصابته ضراء صبر فكان خيرا له‏.‏
لقد صبرت علي الحرمان من الانجاب‏..‏ وشكرت الله علي نعمته‏,‏ فكان خيرا لك بإذن الله‏,‏ وإني لأشاركك الدعوة المخلصة في ألا يتعجل من يواجهون نفس ما واجهته أنت من ظروف في السنوات الأولي من زواجك‏,‏ التفكير في الانفصال عن زوجاتهم‏,‏ أو في الزواج من أخري مع ما يترتب علي ذلك من اضطرابات عائلية‏,‏ لأن رحمة الله التي وسعت كل شيء قد تهبط عليهم في أية لحظة‏,‏ فتتحقق الآمال ويسعد المحرومون بما كانوا يتلهفون عليه‏,‏ وهو جل في علاه قادر علي كل شيء ويخلق ما لا تعلمون وفي أي وقت يشاء سبحانه وتعالي‏.‏