.........حكاية أثناء النوم


فجأة قرر حاكم مصر أنه يريد برلمانا بلا معارضة، فجأة قرر أنه لا يرغب فى سماع أصوات تزعجه، فجأة شعر أن اللعبة الديمقراطية لم تعد تبهجه، فجأة شعر أن المصريين لم يعودوا يستحقون الحرية التى كان يعتقد أنه الذى منحها لهم، ولذلك أصدر أوامره إلى رجاله فى الإدارة والأحزاب معا بأن ينفذوا رغبته بأى شكل، حتى لو كانت الطريقة مزرية وقميئة ولا أخلاقية.

لا أحد يعرف متى جاءه هذا القرار بالضبط؟، ولا من الذى أشار به عليه؟، ولا كيف شعر أن حلفاءه الغربيين لأسباب تخصهم لن يكونوا مهتمين بأى تزوير يحدث فى الانتخابات؟، لا أحد سأله هل درس هذا القرار جيدا؟، هل فكر فى أن انفراده بالسلطة سيكون حقا فى مصلحة البلاد؟، هل أدرك كم هو موحش وخطير ألا يسمع الحاكم إلا أصداء صوته؟، بالطبع لم يفكر أحد من رجاله فى الحصول منه على إجابة لأى من تلك الأسئلة، فهم جميعا يعلمون أنهم خلقوا فى دنياه لكى يطيعوه، كل ما كان يهمهم أن ينالوا رضاه حتى لو استحقوا سخط الله وسخط الناس، للأمانة هم لم يكونوا يخافون من سخط الله فهم يعتقدون أنه غفور رحيم يمكن أن يسامحهم لأنهم عاثوا فى البلاد فسادا فقط إذا تقربوا إليه بعدد من الحجات والعمرات والصدقات، وهم أيضا لم يكونوا يرون أن الخوف من سخط الناس أمر يستحق أن تلقى إليه بالاً، فالناس لن يعرفوا مصلحتهم مثل ما يعرفها الحاكم ورجاله.
يومها صدرت الأوامر بأن يسقط كل رموز المعارضة فى دوائرهم أيا كان الثمن، وكان رجال الإدارة يقولون للناس جهاراً نهاراً إنه ليس من المعقول أن نخالف الأوامر السامية بعد كل ما قدمه القصر للبلاد، وإنه يجب أن يعلم الجميع أن جلالة الملك الشاب لن يفتتح برلمانا فيه معارضون يكرههم أبوه جلالة الملك فؤاد.. لماذا أنت مستغرب؟، أنا أحدثك عن انتخابات عام 1938 التى جرت فى ظل عهد الملك الشاب القادم حديثا من الخارج بعد سنوات من التعليم قضاها فى لندن، هل ظننت أننى أتحدث عن أحد آخر أو عن انتخابات أخرى لا سمح الله؟.

هل كان ينبغى أن أخبرك بذلك من الأول، لأنك شأن الكثير من أبناء بلادنا حكاماً ومحكومين لا نحب قراءة التاريخ ونستثقل دمه ونظن أن التاريخ ليس سوى أرقام سنوات مرتبطة بأحداث وأسماء حكام نحفظها لكى نصبها على ورقة الامتحانات ونحن تلاميذ، ولا ندرك أن التاريخ يحمل إجابات لكل أسئلة الواقع ولكن لمن أراد لها حلا.
عموما أنت تعلم عماذا أتحدث الآن، لكن هل تعلم أن تلك الانتخابات شهدت واقعة برلمانية غير مسبوقة فى تاريخ المجالس النيابية فى العالم كله، يومها كان حزب الوفد حزبا عظيما وليس «هفقا»، وكان يرأسه زعيم عظيم ملو مركزه اسمه مصطفى النحاس كان المصريون يعتبرونه زعيمهم الحقيقى، ولذلك عندما أصدر الملك أوامره لرئيس وزرائه على ماهر بضرورة إسقاط النحاس شخصيا فى دائرته سمنود بالغربية لتمريغ أنف الوفد فى التراب، قرر الوفديون أن يتحدوا إرادة الملك بحيلة غير مسبوقة اقترحها شاب انضم إلى الوفد حديثا اسمه فؤاد سراج الدين، كانت الفكرة أن يتقدم النحاس فى آخر لحظة قبل قفل باب الترشيح بأوراقه كمرشح فى دائرة أخرى اسمها الزعفران يضمن سراج الدين بحكم ما له فيها من أطيان وأنصار ألا يتقدم فيها مرشح منافس للنحاس أبدا.
وبالفعل تقدم سراج الدين بأوراق ترشيح النحاس فى الساعة الخامسة إلا خمس دقائق من يوم قفل باب الترشيح وتأكد من قفل باب الخزينة دون أن يتقدم للنحاس منافس فى الدائرة، وعندما وصل الخبر إلى القصر صدر أمر من فريد أبوشادى، مدير الغربية المنتدب، بفتح الخزينة وإحضار أى شخص من البلد وتقديم أوراق ترشيح له ودفع أى تأمين فورا حتى لو كان هذا الرجل نكرة لا يعرفه أحد، وبالفعل لم يعدم رجال القصر شخصا يبيع نفسه من أجل المال، والشهرة أيضا، فهو سيكون منافسا للنحاس باشا بجلالة قدره، وكتب التاريخ تقول إن هذا الشخص اسمه محمد سعيد، لكنها لا تذكر عنه أى معلومات أخرى، ربما لأنه لم تكن لديه فعلا معلومات أخرى يمكن أن يذكرها أحد، وربما لذلك قال فؤاد سراج الدين للنحاس إن ما حدث أمر ليس له أى قيمة لأن كل مَن فى الدائرة هم إما مستأجرون لديه أو عمال فى مزارعه، وأنهم جميعا يحبون النحاس ولن تجدى أى ضغوط تمارس عليهم.
فى يوم الانتخابات شهدت مصر مهازل لم يسبق لها مثيل فى تاريخ برلماناتها، وصلت إلى حد أن يقوم شيخ بلد كفر الثعبانية أحد أكبر مراكز دائرة سمنود ومعه عدد من الخفراء
(الذين كانوا يلعبون دور البلطجية يومها)
باقتحام سيارة النحاس أثناء توجهه لتفقد الدائرة، وقاموا فى حضوره بضرب مندوبه فى الكفر بهراوة على رأسه، ثم اختطفوه فى حضور النحاس المذهول مما يجرى، وعندما ذهب النحاس إلى وكيل النيابة الذى يراقب الانتخابات وأبلغه بأن شيخ البلد نبيل غنيم قام بكذا وكذا، تم استدعاء شيخ البلد الذى أنكر ما حدث جملة وتفصيلا، بل وقام بإحضار فلاح طاعن فى السن يرتدى ملابس بالية وقال إنه والد مندوب النحاس، وعندما سألوه عن مكان ابنه قال لهم إنه مسافر إلى القاهرة منذ يومين، قالوا له لكن النحاس باشا يقول إن ابنك كان معه وتم شج رأسه وخطفه، فأنكر الأب ذلك تماما، ووجد النحاس نفسه يواجه تهمتى الكذب وإزعاج السلطات، لولا أن وكيل النيابة كان رجلا شريفا وأدرك ما حدث فأغلق المحضر.
كانت الأخبار تتوالى إلى قيادة الوفد من جميع أنحاء البلاد بسقوط قتلى وجرحى على أيدى رجال البوليس، واختطاف صناديق الانتخابات من داخل مراكز الاقتراع، والاعتداء من قِبَل الخفر والعساكر على رجال الوفد الذين حاولوا حماية الصناديق بشراسة وقرروا الاستمرار فى ذلك مهما كلفهم من تضحيات.
وعندما وصل إلى النحاس أن عددا من كبار رجال الوفد الذين كانوا ينجحون فى كل انتخابات بالتزكية مثل مكرم عبيد فى قنا وعبدالفتاح الطويل فى الإسكندرية وأمين الوكيل فى دمنهور وأمين الإتربى فى أخطاب تم الإعلان عن سقوطهم بنتائج مزرية، أصدر النحاس أوامره إلى كل رجال الوفد بأن ينصرفوا فورا ويتركوا صناديق الانتخابات لرجال البوليس والإدارة لكى يزوروا فيها كما يشاءون.
عاد النحاس إلى القاهرة وبدأت تتوالى تباعا نتائج سقوط مرشحى الوفد والمعارضة فى كل الدوائر، وبقيت دائرتا سمنود والزعفران اللتان ترشح فيهما النحاس فلم تعلن النتيجة فيهما، ويقولون إن على ماهر كان يحاول إقناع الملك بضرورة إعلان نجاح النحاس فى إحداهما غسلا لسمعة البرلمان القادم، لكن إرادة الملك تغلبت وصدر فى ساعة متأخرة من الليل بيان من الداخلية يعلن أن النحاس زعيم الأمة سقط فى دائرتى سمنود والزعفران، أى أن الشعب المصرى قرر من أجل مستقبله أن يختار محمد سعيد بدلا من مصطفى النحاس.
يومها لم يسقط النحاس وحده فقط، بل سقط كل رجال المعارضة الذين قدموا أداء نيابيا راقيا كانت مصر تفتخر به وقتها، وفى المقابل شهد ذلك المجلس أعلى نسبة من كبار ملاك الأراضى قياسا على الهيئات البرلمانية السابقة، بل ووصلت نسبتهم فى الوزارة، التى تشكلت عقب الانتخابات إلى 66 فى المائة من الوزراء كما يقول الدكتور عاصم الدسوقى فى دراسته عن دور كبار الملاك فى الحياة السياسية المصرية، وهى نفس الوزارة التى قام بتشكيلها محمد محمود باشا، رئيس حزب الأحرار الدستوريين، الذى كان يضم أكبر عدد من المثقفين المدافعين عن الليبرالية والديمقراطية والتقدم.
وبرغم رضا وزارته بأن تكون ألعوبة فى يد الملك لضرب إرادة الشعب فقد أصر الملك على إهانتها بأن رفض قائمة الوزراء التى تقدم بها محمد محمود عشر مرات ولم يقبل بها إلا فى المرة الحادية عشرة لكى يوصل رسالة قوية إلى البلاد كلها بأنه لن يسمح بأن يعلو صوت فوق صوته.
لا شك أن الملك كان سعيدا جدا للغاية فى تلك الأيام، لا شك أنه كان يضحك ملء شدقيه، لا شك أنه كان يشعر أنه قام بضرب قادة المعارضة على أقفيتهم، لا شك أن أجهزته الأمنية كانت ترفع له تقارير عن غيظهم وحنقهم وخيبة أملهم، لا شك أنه لم يفكر ولو للحظة فى خطورة ما فعله على مستقبل البلاد لأنه يرى أنه هو وحده مستقبل البلاد، لكن يا ترى هل تذكر الملك كل ذلك وهو يبحر فوق يخته الملكى مطرودا من عرشه وبلده بعد قيام ثورة يوليو التى بدورها استغلت ذلك النوع من الانتخابات ذريعة لإلغاء التمثيل النيابى كله على بعضه؟ يا ترى هل قال الملك لنفسه ما الذى كان سيجرى لو احترمت إرادة الأمة ولم أحول الديمقراطية إلى لعبة سخيفة ولم أسحق الفقراء والبسطاء لصالح الأغنياء والإقطاعيين؟

هل فكر الملك فى ذلك كله؟ لا أحد يعلم ذلك إلا الله، والله غالب على أمره، ولكن أكثر الناس لا يعلمون

الكاتب
بلال فضل
الأثنين 6-12-2010