ثلاث قصص.....محمد البساطى


‏1‏ـ عضة كلب
تعمل سهير في إحدي دور النشر‏,‏ وتقيم في شقة صغيرة مع أمها التي انفصلت عن أبيها‏..‏ لا تعرف سبب انفصالهما‏.‏ سألت أمها‏.‏ قالت‏:‏ ـ يا ريتني أعرف‏.‏ كنت استريحت‏.‏
أبوها صعب‏.‏ عكر المزاج‏,‏ يتكتم أسباب الانفصال ولا يحب أن يتكلم عنها‏,‏ وربما لم تكن هناك أسباب‏.‏كل ما في الأمر أنه ضاق بها فقال لها ابحثي لك عن مكان‏.‏ طبعه وتعرفه‏,‏ وأمها أدري به‏.‏ لم تناقشه‏,‏ كانت علي ما يبدو تظنها نوبة غضب وتزول مثل المرات الثلاث السابقة‏,‏ والتي ذهبت فيها للإقامة عند صديقة لها‏,‏ وحين يبلغه الأمر‏,‏ وكانت هي من تبلغه‏,‏ يزفر غاضبا‏,‏ ويتحرك من غرفة لأخري ثم يصيح بها‏:‏
ـ شايفة أمك بتعمل أيه ؟
ـ يعني حاتروح فين ؟
ـ لها أقارب تروح لهم‏.‏
ـ بعد عشرين سنة زواج تروح لهم‏.‏
ـ اتصلي بها ترجع‏.‏
هذه المرة صممت أمها أن يكون لها سكنها‏.‏
وقد كان‏.‏
جمعت ملابسها في حقيبتين‏,‏ وقالت له خلال باب حجرته المغلق‏:‏
ـ حاخد سهير‏.‏
ـ خديها‏.‏
وخرجا معا‏.‏
ربما لم ينتبه لما قاله إلا في اليوم التالي‏,‏ فوجئت به يتصل بها تليفونيا في عملها يسألها أين ذهبت؟
ـ مع أمي‏.‏
ـ فين ؟
ـ عندها شقة قاعدين فيها‏.‏
ـ أجرت شقة‏.‏
ـ آه
أغلق التليفون
يبدو لها حين تتذكر ما جري أنه حدث عقب عضة الكلب‏,‏ ولا تدري لم أحست أنها السبب في انفصالهما‏.‏ كيف ؟ لا تعرف‏,‏ لكنه إحساس ظل يلح عليها‏.‏ كانوا معا عائدين بالقطار من الإسكندرية دخلوا ردهة المحطة الداخلية يسحبون حقائبهم‏,‏ بيد أمها نصف سندويتشلانشون تبقي معها عندما نزلوا من القطار‏.‏ فجأة سمعت زمجرة الكلب‏,‏ ورأته يفلت من يد صاحبه ويقفز نحوهم‏,‏ قذف أبوها بحقيبته في طريقه‏,‏ تفاداها الكلب وواصل هجومه‏,‏ تعثرت أمها صارخة سقطت قاعدة‏,‏ رمت إليه السندويتش‏,‏ غير أن الكلب أطبق أسنانه علي ذيل فستانها فمزقه‏,‏ سحبت ساقها بعيدا‏,‏ الكلب ـ كما رأت ـ هدأ قليلا ثم رأي الساق تتحرك أمامه فعضها‏.‏
يومها ترك أبوها الحقائب مع شيال في المحطة‏,‏ رفع أمها وساعدته امرأة من عاملات النظافة‏,‏ حملهم التاكسي إلي المستشفي‏.‏
قرروا إعطاءها عددا من الحقن‏.‏كل يوم واحدة‏.‏ ولف الطبيب الشاش حول العضة بساقها‏.‏ بعد أسبوع وكانت ممدوة بالسرير راحت تفك الرباط‏:‏
ـ الدكتور قال حاتترك أثرا يروح بعد شوية‏.‏
كانت تكلم أباها الواقف بجوار الفراش ينتظر‏.‏ قال في ضيق‏:‏
ـ كل ده رباط
ـ خلاص آهه‏.‏
بدت البقعتان داكنتين ببشرتها البيضاء‏.‏ ظهرت ملامح قرف علي وجه أبيها‏.‏ ضغطت أمها بطرف اصبعها علي البقعتين ونظرت إلي أبيها في تردد‏.‏ قالت‏:‏
ـ خلاص‏.‏ راحت بص مفيش وجع‏.‏
نظر إلي الساق الممدودة مرة أخري‏.‏ انتبهت أمها إلي نظرته‏.‏ غطت مكان العضة وخفضت رأسها‏.‏
استدار أبي وخرج من الحجرة‏.‏ ليلتها طلب من أمها علي ما يبدو أن تنام مع ابنتها‏.‏ فوجئت بها تدخل حجرتها ووجهها منقبض وتمددت بجوارها دون كلمة‏.‏ أسبوع وهي تنام في حجرتها‏.‏ ونقلت بعض ملابسها إلي دولابها‏.‏ هي في السابعة عشر بما يجعلها تلاحظ أنه لم يقربها طول الأسبوع في الأيام الأخري كانت تحس ببهجة أمها وهي تغادر الحجرة في الصباح‏,‏ وتغلق بابها دون صوت‏,‏ وبعد حمامها تأتي إلي المطبخ تقف بجوارها لتعد الفطور لأبيها‏.‏
هي فرحة لأمها‏,‏ تقول‏:‏
ـ استريحي أنت وأنا أجهز لكما الفطور‏.‏
ـ أنا صحيت خلاص‏.‏
اعتادت خلال هذا الاسبوع أن يخرج كل يوم ويتناول غداءه قبل أن يعود للبيت‏.‏ وفي وجبة العشاء تعد أمي طبق السلطة التي يحبها‏,‏ وتحمل هي الصينية إلي غرفته‏.‏ يسألها‏:‏
ـ مين عمل السلطة‏.‏
ـ أمي‏.‏
ـ خديها‏.‏ خذي الصينية كلها واعملي لي سندويتش جبنة رومي‏.‏
هما وحدهما في الشقة ولا تفصح عن سبب انفصالهما‏.‏ بدا أنها تعرف وتتكتم‏.‏ تقول‏:‏
ـ أبوك‏.‏ وانت عارفاه‏.‏ طول عمره كده‏.‏
تقعد في الفراش وتمد ساقها المعضوض في الشمس‏.‏ تقول‏:‏
ـ راحت‏.‏
هي بجوارها‏.‏ تنحني وتنظر‏.‏ تقول أمها‏:‏
ـ بصي‏.‏ باقي حاجة بسيطة‏.‏ بكرة تروح
وتقول مبتعدة‏:‏
ـ موش باينة‏:‏
ـ خفيف‏.‏
ـ اللي عايز يشوفها حايشوفها‏.‏
في كل مرة تعود من العمل تنظر أمها إلي وجهها تبحث عن أخبار جديدة‏.‏ في النهاية تسألها‏:‏
ـ أتصل بك ؟
وتقول انه لم يتصل‏.‏
تسألها إن كانت تريدها أن تتصل به ؟
ترفض‏.‏
تقترح عليها الخروج‏.‏
ـ نروح فين ؟
ـ نتمشي‏.‏ نتعشي بره‏.‏ ونشوف المحلات‏.‏
ـ ماليش نفس‏.‏ اخرجي أنت‏.‏
ـ لوحدي ؟
ـ طيب‏.‏ أخرج معاك‏.‏
لها ساقان جميلتان‏.‏ بشرتها بيضاء ناصعة‏.‏ جيبتها وفساتينها تتوقف عند الركبة‏.‏ تخطر في مشيتها مزهوة بهما‏.‏
نظرت إلي الفستان الذي ستلبسه والتفتت إلي ساقها المعضوض‏.‏ قالت‏:‏
ـ ودي أخفيها ازاي ؟
ـ البسي حاجة طويلة‏.‏
ـ ماعنديش‏.‏
ـ بنطلون‏.‏
ـ عمري ما لبسته‏.‏
ـ لما ننزل نشتري واحد أو اثنين‏.‏
ـ عمري ما لبسته‏.‏
ـ جربي‏.‏ مريح‏.‏
ـ طيب‏.‏
ونظرت إلي ساقيها بأسف‏.‏
تعود من الخارج متعبة‏.‏ تشطف نفسها‏,‏ تستلقي في الفراش وتروح في النوم‏.‏
كانت في الأربعين‏,‏ تذوي يوما بعد يوم‏.‏ وماتت دون ضجة في الليل‏.‏ لم تشعر بها‏.‏ كانت في قعدتها أمام التليفزيون‏.‏ مالت علي جنبها‏,‏ وراحت‏.‏
تذهب إلي بيت أبيها لترتيبه‏,‏ لا يتحمل وجود الخادمات‏,‏ بعد رحيل أمها أخذ حقنة خطأ وأصيب بشلل نصفي‏,‏ يتحرك علي مقعد بعجلتين‏,‏ وكان هناك أمل في شفائه مع العلاج الطبيعي‏,‏ لم يكن مهتما‏.‏ وكانت تلح عليه لتأخذه إلي جلسة العلاج بالمستشفي حتي بدا لها انه مستريح لوضعه‏.‏
يسألني عن أمي‏,‏ وإن كانت مرضت ؟
ـ أبدا‏.‏ قبل ما تموت بأسبوع اشترت بنطلونا‏.‏
ـ معقول؟ وكان شكلها ايه؟
ـ مالحقتش تلبسه‏.‏
ـ آه‏.‏
في لحظة تجرأت وسألته عن أسباب انفصالهما ؟
ظهرت تكشيرة علي جبهته‏.‏ قال ؟
ـ فيه حاجات عيب تسألي عنها‏.‏
ـ أنا بنتك وبنتها يبقي فين العيب ؟
رمقها بنظرة غاضبة ولم يجب‏.‏
قالت وقد أحست أنها تتهور‏.‏
ـ ويمكن مفيش أسباب‏.‏
ـ اسكتي‏.‏
وسكتت‏.‏
حين ذهبت في المرة الثانية لترتيب البيت طردها‏.‏ صاح في غضب عنيف‏:‏
ـ غبية‏.‏
ـ أيه‏.‏ جري أيه؟
ـ حاجة في مكانها‏.‏ سيبيها في مكانها‏.‏ نظارة هنا‏.‏ قلم هنا‏.‏ كتاب هنا‏.‏ تنقليه من مكانه ليه ؟
ـ برتب الفوضي اللي أنت عايش فيها‏.‏
ـ ترتبي وأدوخ أنا‏.‏ عارف مكان كتاب كذا وأروح له‏.‏ موش لاقي حاجة‏.‏ عارف مكان النظارة وأروح له‏.‏ موش لاقي‏.‏ ويروح اليوم وأنا بدور عشان حضرتك بترتبي‏.‏ أمشي‏.‏ ما تيجيش تاني‏.‏
ومشت‏.‏ لم تغضب‏.‏ لكنها كانت مكسورة الخاطر‏.‏ بكت في عودتها‏.‏ هي أخطأت‏.‏ كان يجب أن تعرف أهمية بقاء الأشياء في مكانها بالنسبة له‏.‏ وفكرت أن تكلمه في التليفون تطلب العودة لترتيب البيت‏,‏ وخشيت رفضه‏.‏
بعدها بشهر جاءها الحارس بخبر موته‏.‏
قال إنه صعد إليه في الصباح بالجرائد‏.‏ وجد باب الشقة مواربا علي غير العادة‏.‏ ضغط الجرس مرة والثانية ولا أحد يرد‏.‏ دفع الباب ودخل‏.‏ وجده كالنائم في المقعد علي بعد خطوتين ورأسه مائل علي صدره‏.‏
ـ ويظهر والله أعلم أنه أول ما حس بالأزمة‏.‏ كان عنده أزمات موش كده؟
ـ ماكانش بيقول‏.‏
ـ أول ماحس بها فتح الباب عشان أعرف أدخل‏.‏ آه‏.‏ كان منتظرني‏.‏
‏2-‏ البغل وصاحبه
ظهر رجل في بلدتنا‏,‏ لايعرف أحد من أين جاء‏.‏ كل ما يملكه من الدنيا بغل‏.‏ وضع علي ظهره سرج حصان تكسوه قطيفة ناعمة‏.‏ يحممه كل نهار أمام عشته علي شاطئ الترعة‏,‏ ويدعك بدنه بالقش‏,‏ أعلن عن نيته تأجير البغل لنساء البيوت حين يرغبن في الخروج ليلا لزيارة أقاربهن والعودة‏.‏ كان ذلك يتيح للزوج البقاء في البيت أو الخروج للسهر مع أصحابه‏,‏ ولايعطي فرصة للرجال علي المقاهي لمعرفة المرأة والكلام عنها وهي علي ظهر البغل بدون زوجها‏.‏
البغال يقضي النهار أمام عشته يمص القصب‏.‏ ربطة من عشرة عيدان يأتي عليها في ساعة من النهار‏.‏ ويحمل المصاصة ويلقي بها في خرابة غير بعيدة فتأخذ الذباب معها‏.‏ يتمطع ويرقد في تعسيلة قصيرة‏,‏ وقبل أن تعتم يأخذ غطسا في الترعة‏.‏ ويلبس جلبابا نظيفا يعلقه علي مسمار في العشة‏,‏ ويأتي بمقعد من الخشب يجلس عليه في الخارج منتظرا الزبائن والبغل بجواره يمضغ ما يوضع أمامه‏.‏ في البداية لم يلتفت إليه أحد‏.‏ إلي أن قام واحد من أعيان البلدة بتأجيره‏.‏ وكثر طلبه‏.‏ كان يوقف البغل أمام باب البيت ويعطيه ظهره‏.‏ تخرج الزوجة ملتفة بملاءتها‏,‏ ويضع الزوج مقعدا صغيرا فوق العتبة‏.‏ تصعد عليه مستندة إلي كتفه وتمتطي البغل‏.‏ ويقول الزوج لصاحبه‏:‏
ـ ترجع بعد ساعة‏.‏
ويخرج صوتها من داخل الملاءة‏:‏
ـ بعد ساعتين‏.‏
ـ خلاص‏.‏ بعد ساعتين‏.‏
استخدمه أبي ثلاث مرات‏,‏ إلي أن وقعت الواقعة‏.‏ أبصر واحد من الأهالي البغل شاردا في الليل علي حافة حوض ذرة‏.‏ اقترب منه لمح شواشي الأعواد تتمايل في بقعة غير بعيدة عن شط الحوض ظنه نمسا يداعب آخر‏.‏ كاد ينصرف غير أن وجود البغل غير رأيه‏.‏ أزاح الأعواد ورآهما صاحب البغل وامرأة تحاول أن تغطي ساقيها وتصرخ‏:‏
ـ ياخرابي‏.‏ حايفكر أننا بنعمل حاجة‏.‏
ضرب الرجل البغال علقة ساخنة وشج رأسه بحجر‏,‏ أخذهما والبغل إلي بيت العمدة‏.‏
وكانت فضيحة‏.‏ المرأة كان يشاع عنها كلام كثير‏.‏ والبغال قال هي التي أغوته قالت له إنها لم تجرب أبدا النوم في الذرة‏.‏ تسمع عنه ولم تجربه‏.‏
وسألته إن كان صحيحا مايقال أن فيه فئرانا؟
وقال لها إن الذرة لايوجد بها فئران‏.‏
وقالت‏:‏ طيب‏.‏ أبص بصة‏.‏ أشوف كلامهم صح ولا لأ
قالتها مرتين‏.‏ والرجل منا موش حجر
صفعه العمدة في عنف‏:‏
ـ لأ حجر يا ابن‏....‏
أرسلهما في نفس الليلة إلي نيابة المركز‏,‏ واحتفظ بالبغل‏,‏ غير أن سكرتير النيابة طلب منه في الصباح إرسال البغل‏.‏
جن جنون أبي‏.‏ وانهال ضربا علي أمي‏:‏
ـ وجربت النوم في الذرة أنت كمان؟
يستريح قليلا ويعود إلي ضربها‏,‏ ترفع ذراعها لتتقي ضرباته‏,‏ يدهشني أنها تستطيع أن ترفعه بيديها وتضربه في الحائط ولاتفعل قعد فجأة في ركن الحجرة يلهث‏:‏
ـ بغال‏.‏ يا فضيحتي‏.‏
كنت منزويا أرقبهما‏.‏ لا أحاول الاقتراب‏,‏ فكثيرا ما نالتني ضربات وركلات من أبي‏.‏ هي أيضا كانت تدفعني بعيدا قالت‏:‏
ـ خلاص‏.‏ استريحت؟
كنت لحظتها أفكر كم واحدة ركبت البغل في البلدة وتضرب الآن مثل أمي؟
وخرجت من الحجرة‏.‏
‏3‏ـ الخادمة
كان عندنا في البيت خادمة صغيرة‏.‏ زبيدة في الثانية عشرة‏.‏ شاطرة وتحبها أمي‏.‏ شايلة البيت كله يناديها أبي عندما يريد شيئا‏.‏ ويجب أن يناكدها‏.‏ يتقبل هزارها ويسعي إليه‏.‏ قالت له مرة‏.‏
ـ وتلبس شراب وجزمة كمان؟
ـ وعايزاني أعمل إية؟
ـ تلبس الشراب وتشيل الجزمة في ايديك‏.‏
وتضحك مسرعة في الابتعاد
تبيت عندنا‏.‏ فرشتها في الحوش‏.‏ تمر عليها أمي قبل أن تدخل حجرتها‏.‏ تغطي ماتكشف منها أثناء النوم‏,‏ ودائما تجد بقية من عشائها في طبق بجوارها‏.‏ وتجد أيضا فمها ممتلئا بالأرز أخدها النوم وهي تأكله‏.‏ تفرغ فمها والبنت مستغرقة في نوم ثقيل بين يديها‏.‏ تصب في فمها جرعة ماء تشرق البنت وتسعل‏.‏ تخبطها أمي علي ظهرها حتي يتوقف السعال وتنتظم أنفاسها‏.‏ تعيدها للفرشة‏.‏
يعمل أبوها باليومية‏.‏ ويقيم في بيت صغير بالقرب منا‏.‏ حين ماتت أمها أراد أن يأخذها‏.‏ قال‏:‏
ـ آهي ونس‏.‏ وتشتغل معنا في الغيطان تجيب قرشين‏.‏
قالت أمي‏:‏ حاعطيك تلات أضعاف اللي حاتخده في الغيطان‏.‏رسم الرجل خطوطا بعود قش في الأرض‏.‏ كان قاعدا بجوار العتبة مستندا بظهره للحائط‏:‏
ـ اللي تشوفيه ياست أم يوسف
ـ ولما تعوزها أبعتها لك‏.‏
ـ اللي تشوفيه‏.‏
ـ ولو اتجوزت وهي عندي حا أقوم بكل تكاليفها‏.‏ هدوم‏.‏ فرش‏.‏ مصاغ‏.‏
ـ كتر خيرك
عام ومرض الرجل‏,‏ بلهارسيا وكبد وخلافه‏.‏ وقعد في البيت‏.‏ ترسل له أمي وجباته مع زبيدة التي أقامت عنده لترعاه في مرضه كانت تمر علي أمي كل صباح منتفخة العينين تسألها إن كانت تريد أن تشتري لها شيئا من السوق‏.‏
شهر‏.‏ ومات
وجاءت عمتها بعد الدفنة‏.‏ امرأة بمقعدة ضخمة‏,‏ والملاءة مطوية علي كتفيها علامة عن استعدادها للشجار‏.‏ وأمي لاتعرف الشجار ولا أصوله‏.‏ وضعت قدمها فوق العتبة وزعقت‏:‏
ـ يااللي هنا
خرجت أمي إليها‏.‏ قالت المرأة في شخط‏:‏
ـ فين زبيدة؟
ـ موجودة‏.‏
ـ ما أنا عارفة أنها موجودة‏.‏ هاتيها‏.‏
ـ أجيبها فين؟
ـ حاخدها‏.‏ أنا عمتها وكلمتي اللي تمشي‏.‏ بتعمل إيه عندك؟
البنت قاصر‏.‏ وكلمة عمتها اللي تمشي‏.‏ ولاحيلة لنا
قالت أمي‏:‏ البنت مستريحة هنا‏.‏ خليها‏.‏
ـ وأخليها ليه؟ حاتستريح عندي برضه‏.‏ أنا أحق بها‏.‏ تخدمني بدل الاغراب‏,‏ وفيه حكومة تديني الحق ده‏.‏
ـ وعلي أيه الحكومة‏.‏ انا كنت بدفع للمرحوم راتب لها‏.‏ قرشين للزمن ينفعوها‏.‏
ـ كنت بتدفعي له كام؟
زبيدة متوارية خلف باب الحجرة‏.‏ وأنا بالقرب منها وبيدي مقشه بلح إذا ماحاولت المرأة الاعتداء علي أمي‏.‏
وذكرت لها أمي الراتب وقد خطر لها فجأة أن تنقص للنصف
وقالت المرأة‏:‏ بس كده‏.‏ ماينفعش معاي‏.‏
وطلبت ضعف ما قالته أمي‏.‏ وأمي سكتت‏.‏ هزت رأسها كأنما تفكر‏,‏ ثم قالت‏:‏
ـ طيب‏.‏ ماشي‏.‏
ـوأنا اللي حاجي آخد الراتب‏.‏ وتخلي بالك من البنت‏.‏ ماتزعلهاش‏.‏ هي فين؟
ـ علي السطح بتنشر الغسيل‏.‏
ـ سبيها تنشر‏.‏
وانصرفت‏.‏
أمي لم يعجبها ماجري‏.‏ ولا أبي صعب عليها حال البنت‏.‏ كل تحويشتها للزمن ستأخذه عمتها‏.‏
والحل؟
كانت وأبي في لحظة صفاء يشربان الشاي في الحجرة‏,‏ ويتبادلان الكلام‏.‏ سمحا لي بالبقاء لمراجعة دروسي بالقرب منهما‏.‏ قالت أمي‏:‏
ـ خدني علي قد عقلي‏.‏
ـ قولي
ـ من غير غضب ولاشتيمة‏.‏
ـ أنت فاكر سامية؟
ـ سامية قريبتك‏.‏ دي في القاهرة
ـ آه هناك‏.‏ لو بعتنا لها زبيدة؟ هي من فترة طلبت مني أشوف لها بنت‏.‏ قلت إيه؟
ـ والله ماعارف‏.‏ أنت أفكارك دايما تجيب المتاعب
ـ متاعب فين؟
ـ ولما عمتها تسأل عليها؟
ـ ولا نعرف مشت لحالها‏.‏ حاتزعق زعقتين‏.‏ نقفل الباب في وشها‏.‏ وخلاص حاتعمل إيه؟
ـ ونكتب لزبيدة العنوان في ورقة‏.‏ ومعاها جواب لقريبتك قومي شوفي هدومها وأعملي لها لقمة تأكلها في السكة‏.‏
ـ البنت حاتوحشني‏.‏
ـ وأنا كمان
وأعدت أمي هدومها في كيس‏.‏ وحتي لا يرانا احد ويبلغ عمتها‏,‏ أخذتها مع طلعة النهار الي محطة القطار‏.‏ وقطعت لها التذكرة
ومشت‏.‏
سنين ولا يأتينا عنها خبر‏.‏ وسامية قريبة أمي أخبرتنا في خطاب أنها لم تصل إليها‏.‏ قلقنا عليها‏,‏ وسكتنا‏.‏ قالت أمي‏:‏
ـ لو حاجة وحشة لاقدر الله كنا عرفنا‏.‏
قال أبي‏:‏ ـ وتعرفي إزاي؟
ـ كانوا حايبلغونا‏.‏
ـ ويبلغونا إزاي؟
ـ أولاد الحلال كتير‏.‏
ـ أنت وأفكارك
وشوفوا الصدفة‏.‏ وأنا طالب بالجامعة وماشي قرب ميدان التحرير وأسمعه اللي بيناديني‏:‏
ـ أستاذ يوسف‏.‏ أستاذ يوسف
التفت‏.‏ واحدة في العشرين تسرع نحوي‏,‏ تعلق حقيبة اليد علي كتفها‏.‏ ويداها ممدودتان إلي‏,‏ سلمت عليها‏.‏ عيناها علي وجهي وتبتسم‏:‏
ـ موش فاكرني؟ أنا زبيدة
ـ زبيدة ياخبر‏.‏ أنت فين؟
كبرت‏,‏ ولها صدر امرأة وجهها مصبوغ بالألوان‏.‏ والبلوزة مفتوحة من أعلي تكشف اعلي صدرها‏.‏
أحست بنظرتي‏,‏ وأغلقت الزر الأخير‏,‏ قلق خفيف بدا علي وجهها‏.‏ قالت ضاحكة‏:‏
ـ عرفتك أول ماشفتك‏.‏ ماتغيرتش لما كبرت‏.‏
ـ ولا انت‏.‏
ـ لأ‏.‏ أنا تغيرت كتير‏.‏
أخرجت منديلا من حقيبتها‏.‏ رفعته إلي وجهها‏.‏ أرادت فيما يبدو أن تزيل الألوان عن وجهها‏,‏ تراجعت يدها‏:‏
ـ وازي الست أم يوسف؟
ـ بخير‏.‏ والوالد بخير‏.‏ دخنا عليك معرفناش مكانك‏.‏
ـ اسكت‏.‏ موش تهت
ـ معقول؟
ـ العنوان في الورقة وظهر أني رحت شقة غير الشقة‏.‏ وبيت غير البيت‏.‏ نصيب‏..‏ حظي كده‏:‏
الست في الشقة أخذتني عندها قالت لي لسة حاتدوري في الحر ده خليك هنا‏.‏ جابت لي هدوم حلوة جديدة‏.‏ واخذتني من ايدي شوفي دي اوضتك فيها سرير ودولاب وتسريحة حلوة قوي وقعدت معاها‏.‏
ـ مستريحة؟
ـ آهي ماشية
نظرت إلي ساعة يدها‏:‏
ـ هي اللي جابتها لي‏.‏ والغوايش اتنين ذهب عيار‏42.‏ وحلق‏.‏ شوف‏.‏ وخاتم‏.‏ كل كام يوم تشتري لي حاجة‏.‏
سكتت‏.‏ رمقتني في وداعة‏.‏ تنتظر علي مايبدو أن أتكلم‏.‏ أرمقها صامتا‏.‏ ابتسمت لها‏.‏ بادلتني الابتسام‏.‏
قالت‏:‏ أمشي بقي‏.‏
وظلت واقفه قالت‏:‏ ـ لما تروح البلد يا استاذ يوسف سلم لي كتير علي الست الوالدة‏.‏ وقل لها انني بخير ومبسوطة ومسير الحي يتلاقي‏.‏ واستدارت مبتعدة‏