الابتزاز مقابل الاستحواذ




فهمى هويدى
مـــ31ـــايو 2012 -
8:35 ص بتوقيت القاهرة
ما يحدث الآن فى الساحة السياسية المصرية يعيد إلى الأذهان ما فعله الأمريكان مع ياسر عرفات فى عام 1988. ذلك أن الرجل كان قد ضعف موقفه ووجد نفسه مضطرا لاسترضاء واشنطن، فطلبوا منه كى يشمله الرضى أن يعلن تخليه عن المقاومة وإدانته لها والاعتراف بقرارى مجلس الأمن 338 و242. وحين وافق على ذلك وقرر أن يلقى خطبة فى الأمم المتحدة يعلن فيها استجابته لما طلب منه، فإن الأمريكيين استغلالا لضعفه وإمعانا فى إذلاله رفضوا أن يعطوه تأشيرة دخول، واقترحوا أن يلغى خطبته أمام اللجنة السياسية التابعة للأمم المتحدة، فى مقر المنظمة الدولية بجينيف. وهو ما حدث بالفعل. إذ أعلن أبوعمار نبذ «الإرهاب» وأيد قرارى مجس الأمن. وبعد أن استجاب الرجل لما طلب منه، كتب أحد المعلقين الأمريكيين قائلا ما معناه أنه طالما أن أبوعمار قرر أن يغير الدور وينتقل إلى طور جديد، أما كان الأجدر به أن يحلق ذقنه ويغير من ثيابه أيضا؟!

سمعت قصة مشابهة من الباحث الفلسطينى المخضرم عبدالقادر ياسين خلاصتها أن مؤتمر القمة العربى كان قد شكل فى عام 1983وفدا برئاسة الملك الحسن الثانى للسفر إلى واشنطن ولقاء الرئيس الأسبق رونالد ريجان، الذى كان قد قدم مبادرة خاصة بالقضية الفلسطينية وكانت للملك فهد مبادرة أخرى حول الموضوع ذاته. وحين عاد العاهل المغربى إلى بلده سأله أبوعمار عما تم فى اللقاء. وكان مما قاله الحسن الثانى أن ريجان سألهم لماذا يرتدى عرفات تلك الخرقة المربوطة بحبل التى يضعها فوق رأسه؟ ــ حينذاك سأل عرفات: ماذا كان ردكم عليه، فقال الملك إننا سكتنا، وحينئذ علق عرفات قائلا، ليتكم قلتم له أعطوا الفلسطينيين حقهم وسأرتدى لهم بدلة «سموكنج».

المشترك بين القصتين أن من يستشعر القوة فى أى مفاوضات لا يكف عن فرض شروطه، وأن الطرف الأضعف إذا ما قرر التنازل فإن مقابله الأقوى سيظل يضغط ويتدلل حتى يعرى الأضعف أو يلغيه تماما.

حضرتنى هذه الخلفية حين تابعت خطاب الأطراف التى لم يحالفها التوفيق فى انتخابات الرئاسة المصرية، ولاحظت أن الإخوان خسروا خمسة ملايين صوت، رغم أن مرشحهم الدكتور محمد مرسى احتل المرتبة الأولى، ودخل الإعادة مع الفريق أحمد شفيق. بعدما حصل كل منهما على نحو ربع الأصوات. (كل واحد حصد 5 ملايين صوت تقريبا). وأدرك هؤلاء أن المرشحين فى موقف ضعيف نسبيا، وأن نصف الأصوات موزعة على القوى الأخرى، خصوصا المرشحين عبدالمنعم أبوالفتوح وحمدين صباحى (الاثنان حصلا على نحو تسعة ملايين صوت).

لأن الفريق شفيق يعد امتدادا واستنساخا لنظام مبارك، فإن رفضه من جانب أغلب الأطراف والمجموعات السياسية الأخرى، لذلك فان الضغط استهدف الدكتور محمد مرسى بالدرجة الأولى. وتنافست تلك المجموعات فى محاولة إلزامه بشروطها، التى بعضها تعجيزى، ولم يحدث البعض الآخر فى أى مرحلة من مراحل التاريخ المصرى. فقد اقترح عليه البعض أن يخرج من السباق تماما ويتنازل للمرشح الثالث (!). وطالبه آخرون بأن يقر من الآن بتعديل المادة الثانية من الدستور بحيث لا تنص فقط على أن مبادئ الشريعة هى مصدر القوانين (وهو النص الذى لم يعد يختلف عليه أحد) وإنما عليه أن يقر أيضا باشتراط ألا يتعارض ذلك مع المواثيق الدولية، التى تعد فى هذه الحالة حاكمة ومقدمة على مبادئ الشريعة. وعرضت علينا من خلال التليفزيون شروط أخرى بينها شرط يقضى بأن كل قرارات رئيس الجمهورية ينبغى أن يوقع عليها نائب الرئيس، الذى يملك بمقتضى ذلك حق «الفيتو» على قرارات الرئىس. وسمعنا أحدهم يطالبه بزيادة الرواتب ومضاعفة معاشات الضمان الاجتماعى ثلاثة أضعاف، بصرف النظر عما إذا كانت الميزانية تسمح بذلك أم لا...إلخ.

لقد دعوت الإخوان من قبل إلى طمأنة الرأى العام، وأشرت إلى عدة أفكار فى هذا الصدد، بينها تعيين رئيس وزراء من غير الإخوان وتشكيل حكومة ائتلافية تضم أبرز القوى والكفاءات، والإعلان عن احترام الحريات الخاصة، إلى جانب احترام مبدأ المواطنة وكفالة حرية التعبير والإبداع. كما تحدثت عن تمثيل الأقباط والنساء فى أعلى مؤسسات الدولة، وأضيف الإعلان بوضوح عن رفض فكرة الدولة الدينية. وكان رأيى ولايزال ان إيضاح الموقف إزاء مثل هذه العناوين يفتح الباب للطمأنة المنشودة. لكنى وجدت أن الأمر وصل إلى حد الاستقواء والابتزاز ومطالبة الرجل بالتنازل عن أبسط مقومات مشروعة. إضافة إلى تكبيله وتعجيزه عن العمل. وهو ما يسوغ لى أن أقول إنه إذا كان الإخوان قد اتهموا بالاستحواذ فإن القوى الأخرى مارست الابتزاز والإقصاء.

ليس عندى دفاع عن الأخطاء التى وقع فيها الإخوان، وكنت من أوائل من نبهوا إليها. لكنى أقول الآن أن ابتزاز مرشحهم للرئاسة على هذه الصورة التى يصعب القبول بها هو بمثابة تقوية لمنافسه الفريق شفيق ودعوة غير مباشرة لإنجاحه. وحينئذ لن يكون الخاسر هو الدكتور مرسى وحده، ولكنه الوطن والثورة وأولئك الذين يتسابقون على فرض الشروط، التى لم يكن منها مطالبة الدكتور مرسى بحلق لحيته.