على كف عفريت....



في الميزان‏'‏علي كف عفريت‏'!!‏
بقلم: أشرف عـبدالمنعم

‏..‏وتحول أعمدة الإنارة المتراصة علي جانبي الطريق السريع في لمح البصر بين عيناي الملولة ومساحات خضراء مبعثرة منزرعة اصطفت هي الأخري لتشهد بأننا ما زلنا نزرع شيئا‏-‏ أي شيء‏-‏ رغم‏(‏ كل‏)‏ ما ننعم به من‏(‏ مظاهر‏)‏ المدنية وسعار البناء‏,‏

وقد توسطت هذه الزراعات بيوتات بائسة قوامها الطين اللبن‏,‏ وحمار شارد هزيل القوام وقف صاغرا فمه في انتظار صاحبه الذي نسيته‏(‏ المدنية‏)‏ هو الآخر في منتصف الغيط علي قارعة الطريق يلفحه قيظ الحر تارة‏,‏ ويقرصه برد الشتاء تارة‏,‏ وهو غير المقتنع أساسا بالدور الذي سطره الزمان علي جبينه محفور القسمات‏;‏ من بعد أن أحاطته ظلال بنايات شاهقة من كل جانب علي مرمي البصر كانت في ذات يوم هي الأخري مزارع‏,‏ ولكن أصحاب تلك الأراضي كانوا هم‏(‏ الأذكي‏)‏ علي ما يبدو‏;‏ وذلك حين تجرأوا علي‏(‏ كل‏)‏ شيء فشيدوا بناياتهم تلك بأدوات المكر والدهاء حتي صارت‏-‏ وصاروا معها‏_‏ واقعا مجتمعيا أليما يجسد معاني الانسلاخ الفردي عن المجموعة‏,‏ وإعلاء مصلحة الفرد باعتلاء صهوة الأنانية‏;‏ واستغلال غفلة الدولة‏(‏ في نظرهم علي الأقل‏)!!‏وبنفس أدوات المكر والدهاء و‏'‏الاستغلاب‏'‏ و‏'‏الاستعباط‏'‏ أجدني ألمح حين العودة إلي المدينة‏-(‏ كل‏)‏ مدينة‏-‏ أحياء بأكملها وقد شيدت في غفلة من الزمان‏..‏ غفلة امتدت لعشرات من السنين المتصلة‏..‏ أدوات مكر قوامها‏'‏ متتالية هندسية‏'‏ سخيفة للغاية هي‏:‏ البناء ثم الماء ثم الكهرباء‏,‏ فإذا بنا أمام أجمل تفعيل لأجمل أمثلة شعبية بليغة من طرازات‏:'‏ أمك في العش و اللا طارت‏'‏ و‏'‏ أعلي ما في خيلك اركبه‏'..‏ وهلم جرا‏!!‏ماذا خلف هذا الواقع مجتمعيا ؟ربما لا يري البعض هذا الواقع سوي من منظور عبارات رنانة نستمع إليها في كل يوم مائة مرة دون حل‏,‏ أو حتي بارقة أمل في أي حل‏,‏ من طرازات‏:'‏ تعديات‏'‏ و‏'‏ عشوائيات‏'‏ وما إلي ذلك من صياغات تفسيرية مريحة لغويا‏,‏ أليمة جدا واقعيا‏,‏ ولكنني اليوم أدعوك إلي القفز سريعا من فوق هذه الطرازات والبنايات إلي آفاق أكثر رحابة‏:‏لقد خلف هذا الواقع الأليم‏-‏ في رأيي‏-‏ واقعا موازيا أليما يمكن أن نسميه اليوم‏:‏ حالة عدم استقرار عقاري‏,‏ وهو تعبير ننسبه لأنفسنا ويرمي بظلاله علي واقع غريب في رأيي هو أنك لا يمكن أن تضمن بقاء حال أي واقع عقاري أبدا في هذا البلد‏-‏ ليس بسببك أنت في شيء وإنما بسبب غيرك في خضم فوضي تحكمها شطحات العقول البائسة‏;‏ فمن الجائز جدا‏-‏ إن لم يكن في حكم الحتمي‏-‏ أن يتحور الواقع العقاري من حولك فجأة‏;‏ بمعني أنه ليس معني أنك قد اشتريت فيللا‏(‏ مثلا مثلا‏)‏ في وسط موقع مخصص للفيلات أن في ذلك ضمان‏-‏ من أي نوع‏-‏ لك ولذريتك من بعدك بألا تجد كل ما حولك وقد راح يتهدم لتخرج بدلا منه عمارات شاهقة تفسد عليك خصوصيتك مهما أوتيت من ضمانات ــ فإما أن ترضخ أو أن ترحل إلي واقع عقاري متحور آخر‏!!‏ وليس معني أنك تمتلك‏(‏ اليوم‏)‏ أرضا زراعية وسط أراض زراعية مماثلة أنك قد لا تجد أرضك في ذات يوم في مهب نطاق عمراني سكنيا كان أم خدميا هو في حقيقته مفسد مفسد لمعني وجودك سواء تم ذلك جهارا نهارا أو في جنح الظلام‏;‏وليس معني كونك تمتلك شقة تطل علي حديقة غناء‏(‏ بتشديد النون‏)‏ هو أنك قد لا تجدها ذات صباح في مواجهة كوبري علوي جارح جاثم فوق صدرك والعياذ بالله‏;‏ أو أن تمتلك شباكا‏_‏ مجرد شباك‏-‏ يطل علي حائط مصمت مجاور فتجده في صبيحة يوم يطل علي شباك عريض فتحته سواعد الجار فجأة بدون حجة أو سند فأصبحت أنت في مرمي نيرانه مادمت حيا‏;‏ ولن أحدثك عن سكني شارع هادئ فإذا بك في مرمي سوق تجاري رهيب‏..‏ وهكذا دواليك‏!!‏أنت إذن تسكن علي كف عفريت في رحاب واقع عقاري قادر دائما علي التحور فقط نحو الأسوأ‏..‏فجأة‏!!‏ولا تقنعني بأي حال من الأحوال أن عكس الأمثلة التي ضربتها لك لتوي من الممكن أن يحدث ولو في أحلام أحلامك‏;‏ كأن تجد شرفتك فجأة في مواجهة حديقة غناء‏(‏ بتشديد النون أيضا‏)‏ من بعد أن أزالوا من أمامك ذلك الكوبري العلوي الذي كان جاثما علي صدرك‏..‏ أي كلام‏!!‏ولن أضيع وقتك ووقتي بالخوض في هذا الحديث المكرر المعاد بحثا عن الأسباب‏,‏ وإنما سأدعوك مرة أخري إلي القفز فوق هذا الواقع إلي رحاب ما هو أبعد‏,‏ ألا وهو ذلك السؤال الذي يراودني دوما فلا أجد له إجابة أبدا‏:‏ لماذا يعجز فكر هذا المجتمع دوما عن السير في عكس هذا الاتجاه ؟لماذا جبل هذا المجتمع بالذات من دون سائر المجتمعات علي استقرار الخطأ فقط فيه واكتسابه الشرعية ؟ ولماذا يتصالح هذا المجتمع دائما مع المعتدين ؟ ولماذا يعتبر هذا المجتمع أن مجرد الحلم بإعادة الأمور إلي نصابها هو ضرب من السذاجة الإدارية أو ربما الجنون‏;‏وأن بقاء الاعتداء علي ما هو عليه هو قمة الواقعية‏..‏ وكأن التغيير عندنا لابد أن يكون دائما في اتجاه‏(‏ الأفضل إلي الأسوأ‏)..‏ وليس العكس أبدا‏!!‏أما المضحك حقا فهو حينما يسفر هذا الواقع المغلوط في الأساس عن أخطاء يروح ضحيتها البشر من جراء ما اقترفته أياديهم وتجرأت عليه‏,‏ فإذا بالدنيا تنتفض في صالحهم وكأنهم كانوا علي حق في أي مما فعلوا‏..‏ تسقط‏(‏ الصخرة‏)‏ علي بيوتات غير شرعية أصلا فيقام الحد علي أناس لو أنهم تجرأوا بنفس المنطق‏(‏ فأزالوا‏)‏ الخطأ‏,‏ وصوبوا الأمور‏,‏ لما سلموا من اللوم في مهب موجة‏'‏ الغلابة‏'‏ العاتية‏,‏ العالية‏,‏ شديدة الوطيس‏!!‏ من بعد أن تاه معني‏'‏ الغلب‏'‏ علي أيادينا‏,‏ فما عدنا نعرف من منا الغلابة تحديدا؟ألم أقل لك أننا نتعامل مع استقرار الخطأ علي أنه عين الواقعية‏!!