أرثر ميللر......كل الرجل حســـدوهـ




الرجل الذي انصب عليه يوما حسد رجال العالم‏,‏ ذلك لأنه اقتني في حجرة نومه نبع الأنوثة‏,‏ واصطفي لنهاره طلعة الحسن‏,‏ وتعاظم بسطوته ليعلق في ذراعه درة نساء الأرض‏,‏ وتفرد بين أجاويد الرجال بعشق خلاصة الدلال‏..‏

الكاتب والروائي العالمي آرثر ميللر الذي تزوج يوما من مارلين مونرو‏..‏ العملاق الذي قارب بقامته المترين.
وأصبح في نظر الأمريكيين بابا الأدب الأمريكي‏..‏ الشامخ برواياته المتدفقة الحافلة بالنقمة علي النظام الأمريكي‏..‏ الرافض للظلم بعدم تسلم جائزة شارون تعبيرا عن استيائه من سياسة إسرائيل ضد الفلسطينيين‏..‏ المفكر الذي ارتفع اسمه للقمة لحصوله في الرابعة والثلاثين علي جائزة بوليترز عام‏1949‏ أرفع جائزة أدبية أمريكية عن مسرحيته وفاة بائع متجول التي تسببت في استدعائه للتحقيق أمام لجنة مكارثي سيئة السمعة التي كونها مجلس الشيوخ الأمريكي للتفتيش في عقول المثقفين والمبدعين تحسبا من تهمة الميول الاشتراكية‏..‏ آرثر ميللر الذي بدأت الاستعدادات في الدوائر الأدبية الأمريكية والعالمية للاحتفال بمئوية مولده في‏17‏ أكتوبر عام‏1910‏ ليظل حتي بلوغه التسعين يكتب وينتج ويباشر أعماله‏,‏ حيث قدم وهو في تلك السن مسرحيته الأخيرة انبعاثات ناعمة التي حفزت همته للتنقل يوميا ما بين محل إقامته في نيويورك ومدينة روكسبوري بولاية كونكتكت للإشراف بنفسه علي اللمسات الأخيرة فيها‏,‏ خاصة أنه كتبها وفي ذهنه هاجس عدم تقبل الجمهور لها‏:‏ كتبت هذه المسرحية بمزاج ومناخ مختلفين تماما عن جميع مسرحياتي‏,‏ فهي تراجيديا الغرائب القريبة من الخيال العلمي التي تركز بصورة خاصة علي تحويل إنسان هذا العصر إلي سلعة للتسويق‏,‏ ولا أكاد أصدق ما تلاقيه المسرحية من نجاح يعكس مؤشرا لا يصدق بأن المواطن الأمريكي لايزال قادرا علي تذوق الفن واستيعاب الثقافة وسط كل هذه الأجواء المشحونة بالدم وبهستيريا الحرب وارتفاع بالونات الضحالة فوق الرؤوس‏.‏آرثر ابن الخياط الأمي ــ الذي علموه في الكبر كيف يكتب حروف اسمه ــ كان يري أن التاريخ ليس سوي سلسلة من فصول الخريف القاحلة‏..‏ إنها تجربته الذاتية مع التاريخ الخريفي‏,‏ ففي العشرينيات كانت الرأسمالية الضارية‏,‏ وفي الثلاثينيات كان الكساد‏,‏ وفي الأربعينيات كانت كراهية هتلر‏,‏ وشهدت الخمسينيات نتاج الحرب الباردة‏,‏ أما الستينيات فيقول عنها ميللر‏:‏ فترة فقدت فيها الإيمان بأية نبوءة اجتماعية رغم حركات السود ونقمة فيتنام‏..‏ ركام مرارة العمر المترسب من إحباطات حياته صاغه الكاتب في مذكراته بعنوان آثار الزمن التي تحدث فيها عن زوجاته الثلاث ماري ومارلين وانجي الثالثة نمساوية الأصل التي تعمل مصورة فوتوغرافية وعاش معها حتي النهاية في بيته الجبلي وسط غابات كونكتكت بعد صراع طويل مع المرض‏,‏ بل عدة أمراض منها وهن عضلة القلب والالتهاب الرئوي والسرطان‏.‏حول طفولته في نيويورك التي لازم فيها شقيقه كيرميت الذي يكبره بثلاث سنوات يروي‏:‏ كان أخي بعينيه الزرقاوين وبشرته البيضاء أقرب في الشبه من أبيه‏,‏ بينما ولدت أنا ببشرة داكنة وعيون قاتمة وشعر أسود مثل أمي‏..‏ كان كيرميت وسيما علي عكسي بأذناي المشرعتين اللتين كانتا مسار تهكم خالتي موي ونكتتها السمجة ساعة نزور الأسرة‏:‏ آرثر اخلع أذنيك فنحن مقبلون علي نفق وكان أقارب والدي يحدقون في وجهي بابتسامة متعالية فقد كانوا جميعا يتميزون ببشرة بيضاء وعيون زرقاء جميلة مثل عيون البقر ويشيرون نحوي قائلين‏:‏ من أين جئتم بهذا الولد؟‏!..‏ وعندما تزوجت فيما بعد وذهبت أزف الخبر لوالدي لطمني بسؤاله العنصري‏:‏ هل هي بيضاء؟‏!‏ ولطالما لمست ردود فعل والدي وعشيرته تجاهي أنا وأمي بما يعني رفضا لنا‏..‏ ذلك الرفض الذي يصدمك بمجرد أن تدخل من الباب حتي ولو لم تتفوه بحرف واحد‏..‏ لكن أمي كانت رغم ذلك ألمع أفراد الأسرة بشهادتها الدراسية وولعها بقراءة الروايات وأخبار النجوم والمجتمع‏..‏ كانت امرأة مبهورة بعالم لم تستطع الوصول إليه‏,‏ وبكتب لم تستطع قراءتها‏,‏ وبأشخاص مهمين لم تتمكن من لقائهم خاصة أن غالبيتهم من كتب التاريخ‏,‏ والواقع أن أمي كانت بالنسبة لأبي مجرد صفقة ناجحة فهي المتعلمة وهو الذي لا يعرف فك الخط‏,‏ وعندما تستأسد عليه مستعرضة معلوماتها يهز رأسه تأكيدا علي أقوالها‏,‏ وساعتها كان قلبي يعتصر من أجل خنوعه ومذلته أمامنا‏,‏ لكنه كان يتحمل الإهانات في رباطة الجأش يحسد عليها‏!.‏آرثر‏..‏ صاحب الفك العريض المتلائم مع كفين غليظين يليقان بساعدي فلاح‏,‏ والذي كان يفضل الحديث جالسا وهو يمد ساقيه الطويلتين للغاية‏,‏ ويحرك بلا انقطاع ذراعين كأنهما خشبتا المارونيت‏..‏ الذي يهوي النجارة ويصنع من الخشب قطعا من الموبيليا الأخاذة عند استراحته من الكتابة‏....‏ أفلس والده الترزي خلال فترة الكساد الاقتصادي وعانت الأسرة ظروفا قاسية مما جعله يشحذ نصل التحدي ضد الرأسمالية في أعماله الأولي خاصة موت بائع متجول‏,‏ وفي مسيرة التحدي استكمل تعليمه الجامعي في جامعة ميتشجن ليصرف عليه من دخل عمله الليلي في أحد المخازن‏,‏ حيث بدأ يكتب أولي محاولاته في القصة والمسرح‏,‏ وكانت تجربته الوحيدة في عالم الرواية باسم فوكوس حول جرائم النازية نشرت عام‏1945,‏ ومن بعدها مسرحياته المشهد من الجسر وذكري بوحي من اثنين وبعد السقوط عام‏1964‏ بعد طلاقه من مارلين التي تضم بحثا عميقا لواقع الفشل في العلاقات الزوجية‏,‏ ثم في عام‏1977‏ كتب مسرحية سقف الأسقف التي عالج فيها مأساة الأدباء الروس المنشقين داخل وطنهم وخارجه‏,‏ ثم مجموعة من الأعمال تحت عنوان الساعة الأمريكية‏,‏ ومجموعة من القصص القصيرة بعنوان ما عدت في حاجة إليك‏,‏ومن أجل أن يكتب مسرحية تعكس واقع الكثير من الدول‏,‏ بطلها طبيب نفسي مسئول عن سجن يختلط فيه المجانين بالأصحاء وهو يحاول عبثا منع الجنون من الانتشار بين الأصحاء وأمضي ميللر عدة أشهر شبه مقيم في سجن جاكسون الذي يضم‏8‏ آلاف سجين أكثريتهم قبض عليه في سنوات الكساد الاقتصادي‏,‏ حيث سرق البعض ليأكل‏,‏ وسرق البعض لأن السرقة أصبحت مناخا عاما‏.‏ورغم ما كتبه ميللر في مذكراته عن الثلاث زوجات فقد أفرد لمارلين وحدها فصلا كاملا ملؤه الشجن‏:‏ كانت مثالا لشاعرة تقف علي قارعة الطريق تحاول إنشاد الشعر لجمهور يمزق أطراف ثوبها ولا ينصت للشعر‏..‏ وقال فيها‏:‏ كانت نورا دوارا يخترق شرايينك ليشعلها‏,‏ وكانت سرا محيرا لن تستطيع مهما اقتربت منه إلي حد الالتصاق أن تسبر غوره‏..‏ تبدو في لحظة مثالا للفجاجة والدونية وسرعان ما تنساب في حساسية غنائية شاعرية نادرا ما يحتفظ بها المرء بعد سن المراهقة‏..‏ ويقول آرثر في مارلين الكثير والكثير فهو صاحب القلم الأدبي العبقري وهي مالكة الفتنة والجمال والجسد الخالي من العيوب‏:‏ كانت تري الرجال جميعهم مجرد أطفال لديهم مطالب عاجلة هيأتها طبيعتها لتلبيتها‏,‏ بينما يقف جانب من تكوينها النفسي للفرجة علي مراحل اللعبة بشغف بالغ‏!..‏ كانت غير قادرة علي الإدانة أو حتي مجرد إصدار الحكم علي الأشخاص الذين آذوها‏,‏ وكان البقاء إلي جوارها يعني الانسجام التام والخروج من بحور الشك إلي شواطئ النور النقاء‏..‏ لم يكن لها عقل لكن كل ما تفعله كان أسمي من العقل والتعقل‏..‏ لديها بصيرة ممتدة وبعيدة تري بها أن الإنسان كله احتياج وكله جراح‏..‏ كانت ملكة في جزء منها ومتشردة مبتذلة في جزء آخر‏..‏ تركع أحيانا أمام جسدها الآسر وأحيانا يقودك هذا الجسد إلي حافة اليأس‏..‏ في عام‏1950‏ كنت بالكاد أعرف مارلين بجاذبيتها المفضوحة وطابعها الطفولي وتحررها من الروابط‏,‏ وكان تتحرك تلقائيا لتحطم مفصلات الوقار لدي الرجال ليواجه كل منهم بعد لقائها المأساة التي أوقعته فيها دون قصد منها‏..‏ كان بعضهم صلبا في تراجعه للتمسك بزواج ممل هرب الحب من شباكه بمضي المدة خوفا من أن يفقد مركزه الاجتماعي‏,‏ والبعض الآخر يهجر بيته وامرأته وأولاده من أجلها ولا يناله منها سوي الهجر‏...‏ كانت مارلين تسيطر علي خيالي بقوة لا أفهمها أشبه بإضاءة قادمة من كلوب سطع علي سهول الظلام من حولي‏..‏ كانت نوبات مارلين تعتريني فجأة وبلا سابق إنذار ولا يطفئ حمي الاجتياح سوي الوقوف ساعة في العراء الجليدي‏..‏ كان مجرد أن يسقط قلمي غطاءه‏,‏ أو يتفجر النور في ظلام الغرفة‏,‏ أو تموء قطتي في الجوار‏,‏ أو ألمح خصلة بلاتينية في آخر القاعة‏..‏ كلها فسيفساء علي لوحة حياتي تذكرني بها‏..‏ كنت أناضل للحفاظ علي زواجي وأسرتي‏,‏ وفي حاجة ملحة للتعلق بقشة بعيدا عن خضم محيط مارلين‏,‏ لكن كل ما يتعلق بي خارج محيطها كان مواتا وصحراء قاحلة‏,‏ ومواجهة العاصفة ومحاولاتي اليائسة إنقاذ زواجي لم تصمد طويلا رغم أنني قمت ببيع منزل الأسرة الكبير والانتقال إلي بيت صغير رومانسي بالقرب من النهر في ويلا ستريت أمضيت أسبوعا في تجهيزه وتنظيم أشياء عديدة من التي ينهمك فيها الإنسان ليرسخ اعتقاده بأنه يبني مستقبلا مع زوجته أم أولاده‏,‏ لكن أجواء الثقة بيننا طارت كما يطير العصفور من عشه‏,‏ وبدا المنزل الجديد كقفص فارغ لا يسمع فيه تغريد العصفور‏..‏ وتلقيت من مارلين خطابا جاءني كمفاجأة أذابت ثلوج الحياة‏..‏ خطها فيه متعرج ينحني أسفل السطر ويعود فجأة وبحدة للارتفاع فوقه‏,‏ وكان مكتوبا بقلمين مختلفين أو ثلاثة‏,‏ منها القلم الرصاص وقلم الحواجب‏,‏ وكانت تتحدث في سطورها عن أملها في أن نلتقي عن قريب‏,‏ بل وعرضت أن تأتيني كلها في التو والساعة وبلا تردد إذا ما قدمت لها بارقة من التشجيع‏..‏ ورددت بلهجة رسمية ثقيلة الجفاف قلت فيها إنني لست الرجل الذي يجعل حياتها تسير كما رسمتها‏,‏ وأنني أتمني لها الخير والسعادة‏..‏ وما أن أغلقت الخطاب حتي أغلقت علي باب غرفتي لأدور كحيوان القفص فلم أكن جادا في ردي فقد استحوذت مارلين علي جميع مواقعي ومفاتيحي‏..‏ و‏..‏ظللت نهبا لاضطرابات داخلية حتي أصبحت مارلين بالنسبة لي مطلبا ملحا خارج نطاق العقل‏..‏ بعدها وللاحتفاظ بإتزاني النفسي قررت الطلاق من ماري فسافرت إلي بيراميدز نيفادا عام‏1956‏ لأقيم الستة أسابيع التي يطلبها القانون للحصول علي طلاق سهل‏,‏ فقانون نيويورك يلزم بإثبات الخيانة الزوجية لبلوغ نعيم الطلاق‏..‏ و‏..‏أقمت في أحد الأكواخ المطلة علي البحيرة التابع للموتيل البعيد وكان أقرب تليفون يبعد أربعين ميلا وهو مشوار يستغرق زمنا داخل عربة تقفز كما بهلوان السيرك فوق سلاسل من الجبال الوعرة‏..‏ كان الطلاق في نظري هو محطة الوصول المتفائل للكمال‏,‏ وثورة ضد الضياع‏..‏ كانت مارلين وقتها تصور فيلمها موقف الأوتوبيس من إخراج جوشوا لوجان‏,‏ وأيقظني مالك الموتيل يوما ليخبرني بأني مطلوب علي التليفون‏,‏ وكانت الساعة الحادية عشرة ليلا التوقيت الذي لابد وأن تكون مارلين قد لزمت فيه الفراش كعادتها‏,‏ وكركرت العربة فوق المرتفعات وفوق أعصابي حتي كشك التليفون الذي لا يضيئه سوي شعاع يخترق السحب قادما من القمر‏,‏ بينما الهواء المتسلل من تحت الباب يلسع كعبي بثلجيته‏..‏ طلبتها في الرقم الذي تركته فجاءني صوتها خافتا هامسا متقطع الأنفاس أسمعه بالكاد وسط ذبذبات الإرسال‏:‏ لا أستطيع الاستمرار‏..‏ كفاك تعقلا‏..‏ العمل بهذه الطريقة عذاب‏..‏ بابا‏..‏ لم أعد أستطيع‏..‏ كانت قد بدأت كنوع من المزاح والدلال تناديني بابا ثم استمرت تناديني بهذا اللقب‏..‏ لكنها الآن لم تكن تمزح بل تعكس لي نغمة صوتها أنها علي وشك البكاء‏..‏ تحدثني بلهجة حميمية كأنما تحادث نفسها‏..‏ لم تكن مهتمة حتي بذكر اسم من أساء إليها‏:‏ يقول إنني قمت بتمثيل المشهد بسوقية بالغة‏,‏ إنه لا يستطيع احتمال النساء‏.‏ لا أحد يستطيع احتمالهن رغم حقيقة طيبة قلوبهن‏..‏ إنهم يخافون المرأة‏..‏ كلهم كلهم‏..‏ أنا سوقية؟‏!!..‏ لقد طلب مني بلهجة منفرة أن أمزق ذيل فستاني وألقيه بعيدا‏..‏ ذلك الجزء الداخل في تفصيل الموديل من الخلف يثير حنقه‏..‏ لقد جعلني أضحوكة الجميع‏..‏ قلت له مزقه بمعرفتك‏,‏ ولم أكن أعرف أنه كان قد قام بالفعل بتمزيقه وكنت أريد القيام بذلك بنفسي حتي لا يتهدل مظهري‏..‏ لست ممثلة مدربة ولا أستطيع التظاهر بشيء إذا لم يكن حقيقيا ونابعا من أحاسيسي‏..‏ واجهته بأنني لن أقوم بدور مزيف فأخذ يدعوني مرات بأني سوقية‏..‏ إنه يكرهني‏..‏ لقد اقترح أن أجري في المشهد وأن ينخلع حذائي من قدمي فطاوعت أوامره وكان جديرا به أن يصيح ستوب‏,‏ لكنه عندما رأي الجالسين من حوله يغالون في ضحكهم تركني أعود راكضة أيضا بفردة حذاء واحدة ليستمر في تصوير منظري الساخر‏..‏ لا أطلب سوي أن أعيش في هدوء بعيدا عن كل هؤلاء‏..‏ أن أحيا إلي جوارك في الريف وأكون معك أينما تريدني‏..‏ بابا‏..‏ لم تعد لي القدرة علي حماية نفسي‏..‏ كان في صوتها صرخة إنسانة وحيدة ضائعة تناديني وسط الفضاء الأخرس الذي يحيطني‏,‏ ولعنت المسافات بيننا‏..‏ حاولت طمأنتها لكنها بدت كمن يسقط في عمق جب محال الوصول إليه‏,‏ وازداد صوتها ضعفا وخشيت أن أفقدها هناك بينما أنا وحدي هنا‏..‏ واستمر صوتها هامسا‏:‏ بابا‏..‏ بابا‏..‏ لا أستطيع‏..‏ وتخيلت صورتها منتحرة فشعرت من جانبي بالاهتزاز ليعلو الطنين في رأسي‏,‏ ووجدتني أنزلق علي الأرض في كشك التليفون والسماعة تنفلت من يدي‏,‏ وأفقت بعد لحظات وصوتها لم يزل هامسا تنادي بابا‏..‏ سأتزوجها وليكن ما يكون‏.‏وتزوجنا ولم تعد مارلين تستطيع الخروج من باب حجرتنا بالفندق دون التعرض لفلاشات الكاميرات المترصدة‏,‏ وانكمشنا نقضي الوقت في جميع أنواع الحوارات المطولة‏..‏ ولم يكن باستطاعتنا التحرك بحرية وسط الجو الهستيري من حولنا‏..‏ وكان غريبا علي مشاعري أن أري المراهقين في محلات الحلوي يحملقون بنهم في صور زوجتي بالمجلات‏,‏ وكنت أنوي دائما أن أخبرها عن سيطرتها الجماهيرية‏,‏ لكنها لم تكن بعيدة عما يجري في الشارع‏..‏ كانت أجور النجوم من حولها قد بدأت في الارتفاع إلا هي تبعا لعقدها القديم المجحف مع شركة فوكس‏,‏ وزودها هذا الوضع بتذمر الثوريين فكانت تناضل مثل متشردي هارلم لكسب بعض الاحترام في عالم فوكس الذي يعتبر أمثالها أصفارا‏..‏ و‏..‏لم تكن تجد إنصافا حتي ممن يمدحونها فقد كانت غالبية كتاباتهم بلغة تجار الرقيق الذين يرون في جاذبيتها درجة أفضل قليلا من بنات الهوي‏..‏ وفي ذلك الوقت اكتشف المنقبون نتيجة حائط ملونة بصورة عارية لها‏,‏ فطالبتها شركة فوكس بأن تعلن أنها ليست صورتها فرفضت مارلين معلنة أنها كانت وقتها في حاجة ملحة للنقود‏..‏ ورغم العاصفة فإنها وعت وقتها تماما أن النفاق هو قانون العصر وأنها هي بالذات مستهدفة‏,‏ وكانت مارلين تؤمن بأنها تمثل كل ما يداريه العالم التقليدي وراء ستار الزيف‏..‏ كانت إنسانة حزينة‏,‏ أراها كتماثيل الآلهة في معابد كمبوديا بنظراتها المتحجرة وابتسامتها الخافتة الواثقة‏..‏ قلت لها في إحدي جلساتنا الحميمة‏:‏ إنك أكثر من قابلتها حزنا‏,‏ وظنت في البداية أنني أنتقدها وأن الرجال لا يبتغون سوي المرأة المرحة‏,‏ لكنها عندما أدركت أنني كنت أطريها بقولي عادت الابتسامة الكمبودية لشفتيها قائلة‏:‏ علي فكرة إنت أول شخص يقول لي ذلك‏..‏ وذهبنا نري العالم ملونا والنوافذ تفتح علي أرض الأحلام وكأننا ولدنا من جديد‏..‏مارلين لم تكن يتيمة لكن والديها أودعاها ملجأ للأيتام للتخلص من عبء رعايتها وهي لم تزل في الرابعة‏..‏ لقد كان رعبها أن تكون أمها قد أنكرت بنوتها وسلمتها للأغراب‏,‏ وبمرور السنين كانت تقرب لمحيطها سيدات مسنات مختلات حتي للعمل في البيت‏..‏ كان من المستحيل معرفة ما تريده مارلين‏,‏ ولم تكن تحلم بأكثر من أن يمر يومها بسلام‏,‏ وروت لي يوما وبدون مناسبة أن عمتها آنا مرضت وماتت وكانت مارلين لم تزل في الرابعة عشرة‏,‏ وصدمت لموتها فقد كانت آخر شخص يمت لها بصلة القرابة‏,‏ فذهبت لبيت العمة ورقدت في فراشها بعد ساعات من موتها‏,‏ وعندما رأتهم يحفرون القبر وكان هناك سلم يؤدي لمكان اللحد‏:‏ سارعت لأنزل القبر ورقدت فيه قبل عمتي وكان المنظر عجيبا لمستطيل السماء المشرقة من فوقي بينما الأرض الباردة من تحتي‏..‏ وتعجب المشيعون لكنني سارعت بالفرار‏..‏ ووقعت مارلين عقدا مع شركة جرين لإنتاج فيلم الأمير والراقصة الذي تقاسمت بطولته مع سيرلورنس أوليفييه وكان التصوير في انجلترا حيث سافرت معها‏,‏ وعقد مؤتمر صحفي في نيويورك قبل السفر وقف فيه البطلان يجيبان علي أسئلة الصحفيين‏,‏ وكتب أحد المعلقين علي المؤتمر إنه كان يضم الفن الرفيع ممثلا في أوليفييه ورمز الجنس الرخيص ممثلا في مارلين‏...‏ يومها جاءتني بصحيفة النقد دون أن تنبس بكلمة واستدارت تتحدث في التليفون بلهجة كافحت لأن تكون طبيعية رغم إدراكي أنها كانت تكتم دموعها الخفية‏,‏ وسألها أحد الصحفيين‏:‏ هل صحيح أنك ترغبين في التمثيل في فيلم الإخوة كرامازوف وأي دور تنوين القيام به؟ ولأن الاستفزاز كان واضحا أجابت بكبرياء‏:‏ دور جروشينكا طبعا لأنها فتاة‏..‏ فرد السائل بغلظة‏:‏ ولكن هل تعرفين هجاء كلمة جروشينكا؟‏!..‏ إنه المرض الأمريكي وربما العالمي المتأصل وهو أن الجنس والجدية لا يجتمعان في امرأة‏..‏ وعدنا من السفر لروتين الزواج في أمريكا وكانت مارلين تذهب في الصباح لطبيبها النفسي وفي المساء إلي درس خصوصي في التمثيل‏,‏ وأحيانا نذهب لزيارة عائلتي في بروكلين‏,‏ حيث تحمل مودة خاصة لوالدي العجوز الذي يشرق وجهه لرؤيتها فهو المغرم بالجميلات صاحبات البشرة البيضاء والشعر البلاتيني‏,‏ وكان يريها قصاصات صورها في الصحف حيث يحتفظ بها في محفظته القديمة علي صدره‏..‏ وبدأ التصوير يتعثر في الفيلم المأخوذ عن روايتي غير المتكيفين عندما أصبحت مارلين غير ملتزمة في المواعيد‏..‏ لم أعرف وقتها ماذا أقول أو أفعل وشعرت بغضبها الشديد مني ومن نفسها ومن العمل‏,‏ وكان كلارك جيبل الذي يقاسمها البطولة مع مونتجومري كليفت يعتقد أنها مريضة ويظل في انتظارها ساعات بلا تذمر مما جعل من يعرفونه يتعجبون لهذا الصبر‏..‏ وتوقف التصوير أكثر من مرة خاصة بعدما بدأت مارلين تخرج عن النص قائلة إن الكلمات لا تهم ويكفي الانفعالات التي تعبر عنها‏,‏ وهذا الأسلوب إذا ما كان يحررها من الحفظ فإنه يربك الطرف الآخر أمامها الذي يلتزم بالنص‏,‏ وارتفعت مؤشرات مرض مارلين النفسي التي لم تعد تثق إلا بالمسنين والأطفال‏,‏ وكانت شجرة دمارها الداخلي قد قويت جذورها ولم تعد تعرف النوم إلا بالحبوب المنومة أي ببروفة انتحار كل ليلة‏,‏ لكنها مع الصباح تعود للأمل مثل سمكة في بحر الظلمات تقفز إلي ضوء الشمس قبل السقوط ثانية‏..‏ و‏..‏انتقلت مارلين إلي شقة خاصة بها وعندما ذهبت لزيارتها كان الطبيب يمسك بذراعها للبحث عن وريد لحقنها بالمهدئ فلما رأتني صرخت في وجهي لأخرج‏,‏ وعدت إليها فوجدتها محطمة لكن أهدأ من قبل فجلست أردد علي مسامعها كطفلة بأنني بابا‏,‏ وأنني لن أتركها أبدا‏,‏ لكنها أغلقت عينيها وأدارت رأسها فأصابني اليأس في التواصل معها ثانية‏..‏ وعادت للعمل بعد أسبوع لكن القطيعة بيننا كانت كاملة‏..‏ كنت قد خرجت تماما من حياتها‏,‏ لكني كنت أري عن بعد أن الفيلم قد أصبح عملية تعذيب بالنسبة لها‏,‏ فمنذ اللقطة الأولي أدركت شعورها بخيبة الأمل‏,‏ ليس في زواجها كشخصية تتقمصها في الفيلم فقط‏,‏ وإنما في الحقيقة أيضا‏..‏ وبعد أدائها اللقطة الثانية ذهبت لأقول لها أحسنت فنظرت ناحيتي بتهكم وكأنني أكذب عليها‏..‏ وتم التصوير وأخبرني كلارك جيبل أن غير المتكيفين هو أفضل أفلامه‏,‏ وتبادلنا نظرة طويلة نعرف معناها معا ومضي‏..‏ ومات جيبل بعد أربعة أيام إثر نوبة قلبية‏..‏ و‏..‏توجهت إلي سان فرانسيسكو حيث لا بيت ولا أحد ولا ارتباط ولكن ما كان يقلقني هو وجود مارلين بين أيد غريبة‏..‏ لقد أمضت معي أطول فترة أمضتها مع شخص حاولت فيها كثيرا أن تعطي لكنها فشلت لأنها تتلقي فقط‏..‏ طرحت بعدها مارلين من تفكيري وعلي المرء أن ينقذ نفسه بنفسه‏,‏ لكن ذلك الشعور بالتوجس ناحيتها كان لا ينتهي‏..‏ هل يعرف طبيبها الخطر المميت الذي يتهددها بنومها بالحبوب المنومة؟‏!‏ قد يطمئنه مظهرها في عيادته وهي في نضارة بنات المدارس اللاتي يشربن اللبن لكنه لا يعرف أنها قد قضت ليلتها بين فكي الموت‏..‏ كل ما فيها تآمر عليها حتي نضارتها الطبيعية المذهلة‏..‏ وعدت إلي نيويورك وبعدها تلقيت نبأ مصرعها بجرعة منومة‏,‏ ولم أستطع الاشتراك في وداعها فقد أدركت أنني سأكون هدفا لآلات التصوير الجهنمية‏..‏ وإذا ما كنت أندم علي شيء فهو لأنني بجميع قدراتي وحبي لم أستطع أن أجعلها تفخر بحياتها‏..‏ وصدقوني أنه عندما كان رجال العالم يحسدونني علي زواجي بمارلين مونرو كنت من جانبي أحسدهم لأنهم اكتفوا بالنظر إليها ولم يتزوجوها‏!..‏ إن هذه النوعية من الفنانات لديها رغبة ملحة ودفينة في الحرص علي الموت أكثر من الحياة‏,‏ وهذا ما يحقق بالتأكيد نظرية فرويد التي تقول إن الإنسان لديه غريزة حب البقاء وغريزة حب الفناء مجتمعتان‏..‏ إن الموت أصدق أصدقاء الفنانة من هذا النوع‏..‏ إنه الأقرب إليها من خلال الكأس‏..‏ ومن خلال المجاملة المصطنعة‏,‏ بل في التمثيل نفسه سواء علي الشاشة أو علي خشبة المسرح أو علي مسرح الحياة‏..‏ وأيضا في العزلة عن الناس أحيانا‏..‏ و‏..‏في الخوف علي نفسها وعلي القمة التي تصعد إليها أو تجلس فوقها أن تضيع‏..‏ كل هذا يؤدي إلي المرض أو الاستسلام للمرض أو الاستسلام للموت أو الانتحار‏.‏آرثر ميللر الذي زار مصر عام‏81‏ وأمضي فيها ثلاثة أسابيع مقيما في منزل الأمير صدرالدين خان بدرب اللبانة بالقلعة‏,‏ وزار المواقع الأثرية الإسلامية والقبطية والفرعونية في القاهرة والأقصر وأسوان‏,‏ ثم عاد إليها في عام‏1998‏ للقيام بزيارة نجيب محفوظ في بيته‏..‏ و‏..‏عندما التقي صاحبا نوبل قال كل منهما للآخر أنت أسطورة‏..‏ ويجيب ميللر علي أسئلة نجيب بأن قيمة الكاتب تبقي كما هي لا تضيف إليها ولا تنقص منها جائزة رمزية‏,‏ ونوبل قد حصل عليها كتاب لم نعد نسمع عنهم بينما أمثال تولستوي وفوكنر لم يحصلوا عليها وظلت أعمالهم خالدة للأجيال‏..‏ آرثر الذي وقعت بين يديه في بدايات الشباب رواية الإخوة كرامازوف رائعة دوستويفسكي‏,‏ وما أن أبحر عبر فصولها حتي وقع في أسر سحرها ليعرف طريقه المكتوب ما خلقت إلا لأكون كاتبا‏..‏ ميللر الذي ذهب إلي جنوب أفريقيا لملاقاة مانديلا ليقول عنه إن المعاناة لم تترك علي مانديلا ندبة علي نفسه‏,‏ وجريمته أنه طالب بحق التصويت لشعبه في بلاد يشكلون فيها الأكثرية الساحقة‏.‏آرثر قال الكثير والكثير وبين هذا الكثير كان الخيار مرهقا لاختيار القليل الذي منه‏:‏لعل ما يميزني عن الآخرين أنهم يصلون عادة متأخرين إلي مكان الحدث فيما أبكر أنا في الوصول‏,‏ وربما قبل وقوع الحدث‏....‏ لدي حدس مؤكد بما سيأتي من أحداث‏..‏ ولست أدري ما نفع الكاتب إذا لم يختزن في كتاباته تلك الطاقة الاستقرائية لزمانه الحاضر والمقبل‏....‏ مفهوم التراجيديا اختلف في وقتنا هذا عن العصور السابقة‏,‏ ففي الماضي كانوا يعتقدون أن هناك عقابا للشر ولكن الأمر الآن هو مجرد استعراض لمظاهر الشر‏....‏ الدرس الذي تعلمته في تاريخي الأدبي أن علي الكاتب أن يكتب قبل أن يتكلم عن عمله المقبل‏....‏ في الكتابة الموهبة أهم بكثير من الصنعة‏,‏ وقديما قال تولستوي إن القارئ يبحث عن روح الكاتب أكثر مما تبهره الصياغة والقواعد الفنية المحكمة‏....‏ المسافة الزمنية تجعل الفرصة مواتية لغربلة الرؤيا واستخلاص المعني من التجربة التاريخية‏,‏ بينما التعبير عن الحدث في زمنه يأتي مرتديا ثوب التناول الصحفي غير المتعمق‏....‏ في وسع الإنسان أن يكون مخلصا لنفسه أو مخلصا للآخرين‏,‏ لكنه لن يكون في مقدوره أبدا الإخلاص للطرفين معا‏....‏ الشيء الوحيد الذي أشعر أنني متأكد منه هو أن أي شخص يعتنق أيديولوجية ما هو شخص توقف عن التفكير‏....‏ أجمل عملين مسرحيين تمت كتابتهما إلي اليوم هما‏(‏ هاملت‏)‏ و‏(‏أوديب‏)‏ وكلاهما يدور موضوعه حول العلاقة بين الآباء والأبناء‏,‏ وهو بالتالي موضوع قديم لكنه يتجدد باستمرار‏....‏ أعشق الكتابة وهي وسيلتي الوحيدة للاستمرار في الحياة‏..‏ وكتابي المفضلون مثال‏(‏ سوفوكليس‏)‏ و‏(‏أيوريبيدس‏)‏ كتبوا أجمل ما عندهم بعد التسعين‏,‏ وأنا الآن بعد الثمانين سأحاول منافستهم في السنوات القليلة المتبقية من عمري‏....‏ لا أذيع سرا أنه كان من بين من مثلوا أمام لجنة مكارثي التي تفتش عن أصحاب الفكر الشيوعي في بداية الخمسينيات من أرشدوا عن زملاء لهم ومن بينهم المخرج الكبير‏(‏ إيليا كازان‏)‏ الذي أدهشني بما تبرع به من معلومات كانت بمثابة طعنات من الخلف‏..‏ عجبت لأني لا أضع الفن والخيانة في سلة واحدة‏....‏ بعض الناس عليهم ألا يتزوجوا فتلك التركيبة من العطاء والأخذ ليست موجودة عند كل الناس‏....‏ الجنس دائما هو الأفضل وهو جزء من الحياة‏,‏ فلماذا نخفيه في البدروم ونكلف المرتزقة بتوزيعه في السر‏....‏ بعض الناس يفشلون لأنهم يستحقون الفشل‏,‏ لكن البعض يفشل لأن المجتمع ليس مستعدا له بعد‏!.