يأكلون البرتقال ولا يضحكون

صديق قديم جدا
‏(18)‏

يأكلون البرتقال ولا يضحكون
بقلم: إبراهيم اصلان

ـ‏1‏ ـ
ذهبت صباحا إلي العمل ووجدت الجميع يتحدثون عن الموزع الذي جري من المفتش بعدما ترك البوستة في المنطقة‏,‏ والريس توما سألني وأنا أوقع في دفتر الحضور عن هذه الحكاية التي حدثت بالأمس وأنا أنكرت معرفتي وقال‏:‏ ـ يمكن حد تان بقي‏.‏

ـ‏2‏ ـ
كان بوسعي أن أنكر أمام الريس توما لأننا لم نكن نخشاه‏.‏ ولم يمر وقت حتي دخل ثلاثة أو أربعة من المفتشين إلي القاعة الكبيرة وعرفت بينهم المفتش الذي جريت منه بالأمس‏,‏ وهو اقترب مني ولامني بدون غضب لأنني تركت البوستة بالأمس في المنطقة وطلب مني مرافقتهم إلي هناك قبل أن يتأخر بها الوقت‏.‏ كانوا يظنون أنني تركتها يوما واحدا‏.‏ وأنكرت تماما أنني تركت شيئا‏,‏ حينئذ دخل دوس باشا متمهلا إلي القاعة الكبيرة ووقف جانبا‏.‏ وعندما صمتوا أشار لهم والسيجار الغليظ بين أصابعه أن يستمروا‏.‏ وقلت بصوت يمكن أن يسمعه أنني وزعت خطابات الأمس العادية والمسجلة علي أصحابها‏.‏ ولما استدعوا أمين مسيحة وسألوه قال انه سلمني المسجل ووزعته‏.‏
ـ‏3‏ ـ
ظل دوس باشا مدير المصلحة يتابع ما يدور وهو يقف جانبا بقامته القصيرة الممتلئة وهو يضع يده في جيب سترته البليزر الكحلي والسيجار الغليظ مشتعل بين أصابعه الأخري‏,‏ وكان يتطلع إلي مبتسما وخيل إلي أنه سعيد بما فعلت‏,‏ ثم أنه استدار وغادر والجميع وراءه‏,‏ وبعد قليل جاء من كتب علي السبورة السوداء بالطباشير الأبيض أنه تم ايقافي وايقاف أيمن اسكندر والمفتش عن العمل‏.‏
ـ‏4‏ ـ
مازالت الحقيبة الي جواري علي الكنبة‏,‏ والصور والأوراق التي لم اتفرج عليها مكومة إلي جوارها‏,‏ وكلما انتهيت من فحص شيء أعدته بداخلها مرة أخري‏.‏ وكانت في يدي الآن خطابات من الورق الخفيف الذي وصلني من جونيور ونسخا من الخطابات التي أرسلتها إليه عن رحلة المحلة الكبري بعد هربه إلي انجلترا‏.‏ وضعت كل شيء جانبا وخرجت إلي الصالة وجلست معهم آكل البرتقال وأشاهد المسرحية الكوميدية ولم يكن أحد يضحك أبدا كانوا نقلوني أيامها إلي المحلة الكبري وخصموا خمسة عشر يوما من راتب أمين لأنه عكس ما نبهوا عليه سلمني الخطابات المسجلة التي اثبتت نزولي ذلك اليوم إلي المنطقة وقيامي بتوزيع الخطابات‏,‏ ولكننا لم نعرف حجم الجزاء الذي وقع علي المفتش‏,‏ ولكننا عرفنا أنه أدين لأنه ترك الخطابات وحدها في المنطقة بينما كان عليه أن يتحفظ عليها ويظل واقفا عندها ولا يتركها حتي يتم ضبطها‏.‏
ـ‏5‏ ـ
قالوا أيامها إن أمين ثار ولم يكف عن تقديم الشكاوي أبدا‏,‏ ربما لأنه كان ضئيل الحجم وعيناه جاحظتان قليلا وسرعان ما يتهور في كلامه‏,‏ وهم عندما استدعوه وسأله المفتش كيف سلمني المسجل بعد التنبيه عليه قال ان الريس أمره بذلك‏,‏ وعندما سألوه أي ريس؟
قال كيف يعرف إذا كان الرؤساء كثيرون‏.‏
بعد ذلك لم أر أمين بسبب سفري إلي المحلة الكبري‏,‏ ولكن الظروف شاءت أن التقي به بعد هذه الواقعة بعشرة أو خمسة عشر عاما عندما كنت مزنوقا بين الناس في الأوتوبيس المزدحم ودقات الكمسري بكعب القلم علي لوحة التذاكر الخشبية ترتفع مع صوته الذي يقترب وهو يقول بوهن‏:‏ تذاكر‏,‏ تذاكر يا أفندي منك له ثم رأيته بعدها شق طريقه وواجهني‏,‏ عرفت فورا أنه أمين مسيحة بقامته الضئيلة وعيناه شبه الجاحظتين‏,‏ وهو تراجع برأسه التي خلت مقدمتها من شعره الناعم‏,‏ ظل يحدق في لفترة ثم قال باستنكار‏:‏انت جاي ورايا هنا كمان‏.‏
ابتسمت ورفعت يدي بثمن التذكرة ولكنه ضحك مني‏,‏ وتجاوزني بينما رأسه يلامس صدري ولم أره بعد ذلك حتي نزلت‏,‏ كنت أسمع فقط دقات القلم علي اللوحة الخشبية‏,‏ بينما يرتفع صوته بوهن ويقول‏:‏ تذاكر‏.‏
ـ‏6‏ ـ
تركتهم يأكلون البرتقال ويشاهدون المسرحية الكوميدية ولا يضحكون في الصالة‏,‏ اتجهت إلي حجرتي ورأيت الحقيبة الجلدية وأنا أدخل من الباب‏.‏
وللكلام‏,‏ غالبا‏,‏ بقية

المزيد من مقالات إبراهيم اصلان

تعليقات القراء

تعليق:الشيخ حسن الفضل تاريخ: 06/04/2010 11:03


كثيراً مما تكتبه جميل وبه شيء من الفلسفة والتشويق

سعادة الأستاذ / إبراهيم أصلان تحية طيبة لكم وبعد : معظم كل ما تكتبه جميل وفي قصصك الكثير من التشويق والمفاجآت الحلوة ولكن في هذه القصة ما شد انتباهي وأعجبني هو حينما قلت أيضاً أخيراً في الفقرة ـ6ـ يأكلون البرتقال ويشاهدون المسرحية ولا يضحكون يمكن يا أستاذ إبراهم كان جرب فروت وليس برتقالاً علشان كدة لم يضحكوا؟! ثم أشير مرة أخرى إلى بطل القصة الذي فوجيء وهو في الأوتوبيس بمفتش البريد الذي أصبح كمسري وجهاً لوجه أمامه .. وتكارم معه وتعداه وهو يضحك بعد أن قال له انت جاي ورايا هنا كمان ولم يأخذ من حق التذكرة ونزل وهو مش مصدق نفسه. طبعاً لا شك أنه موقف مضحك بالنسبة للقاريء والقصة كلها مشوقة وبها بعض القفشات الجميلة. ولا نستطيع أن ننسى أبدا الكثير من قصصك المشوقة وخاصة القصة التي كان فيها أحد أبطالها قد رزق بثروة كبيرة وكلما جاء إليه ضيفاً فتح له الدولاب وأراه هذه الثروة وحينما ذهب أخر ضيف إلى الذي كان يقص هذه الرواية وقال له إن فلان رزق بثروة كبيرة واشترى منزلاً وانه كلما جاءه ضيف ليبارك له يفتح له الدولاب ويريه الثروة الكبيرة ولما قال له تعالى لنذهب إليه لتتأكد بنفسك وحين مكوثهما في الغرفة التي بها الدولاب ذهب صاحب البيت ليعد الشاي بنفسه وحين أخذا الشاي لاحظ أن راوي القصة ينظر إليه مرة وينظر إلى الدولاب مرة ثانية ويطيل النظر إلى الدولاب وفي هذه المرة انتظر صاحب المنزل كل منهما شروبه للشاي ولم يفتح الدولاب في هذه المرة ليرى القادم الجديد ما في داخله، وذهب وهو مندهش وصاحبه كان مرسوماً على وجه الدهشة أكثر منه والقصة بها شيء من التعجب والاستغراب لتترك كل واحد يفسرها حسب ما في فكره من تساؤلات هل صاحبه كان صادقاً مما جعل صاحب المنزل لا يفتح الدولاب أو هل خاف من عينيه ومن الحسد.. إلخ أم كان كاذبا ولكن القصة كان جميلة ومشوقة. مع تحياتي لك.

تعليق: تاريخ: 06/04/2010 10:59

الساحر !

صباح محلاوى رائق على عيونك أيها الساحر الجميل
، بالمناسبة ايه حكاية المحلةالكبرى معك ؟!